كم من “ليس الآن” بنت مسافة لا يلغيها ألف اعتذار

0

كم من “ليس الآن” بنت مسافة لا يلغيها ألف اعتذار

كل ما قلنا “ليس الآن” لطفلنا رفعنا حجراً جديداً في الجدار الذي يفصل بيننا

كنتُ أنجز بعض الأعمال على جهاز الحاسوب ليلاً. فاقتربت مني صغيرتي وطلبت أن “تنام في قلبي”. أجبتها تلقائياً “ليس الآن عزيزتي، انتظريني قليلاً”. فابتعدت واتجهت بمفردها نحو سريرها حاملة جهازها اللوحي. تذكرتُ للحظات المقال الذي قراته حول تشبيه علاقة الطفل مع أمه بعلاقة الطائرة مع حاملة الطائرة، ذلك المكان الذي تستريح فيه الطائرة بعد كل معركة وتشحن طاقتها من جديد. ذلك المكان الذي تنسحب إليه الطائرة حيت تواجه خطراً أو عطلاً أو تحتاج إلى تعبئة الوقود. أي أن الأم هي المكان الذي يلجأ إليه الطفل حين يشعر بنقص في الحب والاهتمام ليملأ هذا الفراغ العاطفي بالحب والثقة والشعور بالطمأنينة والأمان.

وتخيلتُ للحظات ما الذي قد يحصل بالطائرة إن لم تجد مساحة لها في الركن الذي اعتادت أن تلجأ إليه، وكم الأعطال التي ستتعرض لها هذه الطائرة إن تكرر الأمر عدة مرات. ما الذي قد يحدث في قلب وأفكار صغيرتي إن استمريت بتجاهل رغباتها في التقرب مني والحصول على بعض الاهتمام والحب، وماذا عن الخيبة التي قد تصيبها، وماذا لو اعتبرت أنه لم يعد هناك مكان متاح لها في قلبي وفقدت الأمل في العودة واختارت الانعزال. ماذا مثلاً لو توقفت عن إخباري عن تفاصيل يومها الصغيرة ولم تعتد تعتبرني ملجأها ومرشدتها وصديقتها المفضلة؟

أغلقت حاسوبي على الفور، واتجهتُ نحو صغيرتي.

جلستُ بالقرب منها في السرير، وطلبتُ منها أن تقترب كي تنام في قلبي. فقالت وهي تتصفح جهازها اللوحي، دون أن تلتفت إليّ حتى (تماماً كما أفعل دون أن أقصد) وقالت “ليس الآن أمي، أنا مشغولة”.

فهمتُ أنها تقلدني وفهمت الرسالة من سلوكها على الفور، صغيرتي تخبرني أنني تصرفتُ معها بطريقة سيئة، وتظهر لي مدى خيبتها بطريقتها الخاصة.

سحبتُ الجهاز اللوحي من يدها، وبدأتُ أدغدغها دون توقف قائلةً “أميرتي غضبت مني؟ ألا تعرف أميرتي أنها أكثر ما أحبه في هذا الكون؟”. وسمعتُ ضحكتها التي أعشقها تعلو وحمدتُ الله أنني استدركتُ الأمر قبل فوات الأوان.

كم من “ليس الآن” سمعتها في طفولتي. بالنسبة لأمي لطالما لم يكن التوقيت مناسباً. فيما كنتُ بأمس الحاجة إلى أن أكون معها، كانت دائماً تجد أعذاراً كي لا تكون معي… إلى أن فهمتُ أن التوقيت لن يكون أبداً مناسباً، وعوّدتُ نفسي أن أخمد مشاعري وألتزم الصمت. أنا أعرف أنها لم تكن تقصد ذلك، وأن دوامة الحياة كانت تسحبها إلى أماكن بعيدة عني. لكنني سأحاول قدر المستطاع ألا أكرر نفس التجربة مع أطفالي.

سأجعل كل توقيت تحتاج فيه طفلتي إليّ مناسباً. وسأوقف الزمن عندما تحتاج ابنتي أن تتحدث إليّ. قد أخفق أحياناً، جميعنا نخفق.. لكن الأهم هو أن نستمر في المحاولة، قبل أن يصبح التوقيت غير مناسب للمحاولة مرة أخرى.

سماح خليفة

اترك رد