التحول والوصول إلى الذات: لماذا لا يكون الكتاب، مساعداً على التحول؟ الكتاب كما القصة، هذا الشيء العجيب الذي يساعد الولد على أن يكبر، على أن «يصل إلى ذاته» كما تقول «فرانسواز دولتو».
يعشق الأولاد قصة ما ـ وهي، بشكل عام، قصة تتضمّن أجوبة على أسئلتهم ـ فيطالبون بها مرة ومرتين وثلاثاً وعشرة وخمس عشرة مرة حتى التخمة ويتعاملون معها كما لو كانت لعبة محبّبة فيداعبونها ويدلّلونها ويلتهمونها، ينامون على وقع كلماتها، يغمرونها بين أيديهم.
وليست هذه الكتب كتباً من قماش أو ورق نمضغها بل هي قصص بكل معنى الكلمة. هل هي قصص للعبور أو التحوّل؟ نعم، لأنها تساعد الولد على أن يكبر ويتحمّل الوحدة، إنّما بوجود أمّه.
الولد المنسجم بالقراءة ومنافع قراءة القصة
راقبوا ولداً ابن 6 أو 7 أو 8 سنوات وهو يطالب بحكاية مسائية متعطّشاً إليها كما لو كان طفلاً صغيراً. هل ستجيبونه: «لقد كبرت بما فيه الكفاية وباستطاعتك أن تقرأ وحدك»؟ أم أنّكم ستحضنونه، وتقبلّونه ثم تخفضون الضوء وتدخلون معه في اللعبة؟
إن هاتين الحالتين مختلفتان تماماً. عندما نقرأ له نشاطره، جسدّياً، لحظة من العطف والمشاركة ونتّحد معه كما لو كنّا نحمله بين ذراعينا. نحمله من جديد كما لو كان طفلاً صغيراً ونرفعه عالياً؛ إنّنا نمدّ له يدنا.
وإذا حاولتم الإجابة: «أتعلم؟ إنك تستطيع الآن أن تقرأ لوحدك»، فماذا تكون ردّة فعله؟ سوف يغضب كما لو أنكم حرمتموه من أحد حقوقه الأساسيّة. فحقّه في أن تقرأوا له قصة هو شبيه بحقّه في المداعبة أو الحلوى أو غيرها.
عندما نقرأ قصة لولد ابن 7 أو 8 سنوات فنحن بالتالي نوافق على مساعدته في الأوقات العصيبة، عندما يكون تعباً أو قلقاً، وكأنّنا نقول: «نعم، أنت تجيد القراءة ولكن فلننسَ ذلك، هذا المساء، أموافق أنت؟». ألسنا نحمل أولادنا في ذراعينا، أحياناً، حتى ولو كانوا يستطيعون المشي؟ هذا الإحساس لديهم بانعدام الجاذبية لذيذ فعلينا ألاّ نحرمهم منه حتى ولو باتوا يجيدون القراءة.
ماذا لو كان عمرنا جميعاً 5 سنوات؟
نحن أيضاً نستطيع أن نعود كالأطفال ونتكلّم لغتهم. ولكن هذا لا يعني أن «نتباله» ونتكلّم كالأطفال بابتسامة متسامحة، أو أن نكون «تحت تصرّف» الطفل. مع هذا يجب أن ننسجم مع عالمهم، نزيل كلّ ما من شأنه أن يعطينا طابعاً رسمياً، وننسى فكرنا الخطابيّ وأفكارنا الجاهزة مسبقاً. ولكن ذلك ليس بالأمر السهل …
هناك فيلم روسي من الصور المتحرّكة يحكي عن الفرق بين عالمنا وعالم الصغار. عنوانه «تشو تشو» choo choo (أي المربّية). أما القصة التي يحكيها فهي بسيطة:
قصة التحول
كان هناك صبي صغير يضجر حتى الموت في عالم الكبار فأهله يستقبلون الضيوف بشكل دائم، فيصل هؤلاء بالتتابع وهم متألّقين بأجمل اللّباس والتسريحات والموضة. وماذا يرى هذا الصبي؟ يرى كعوباً نسائية عالية وأحذية رجاليّة ذات أشرطة ونساءً مجمّلات إلى أقصى حدّ ويسمع هتافات اجتماعية…
إنّه لا يرى أي شيء على مقياس طفولته. على كل حال، ما من أحد يكترث له وبالكاد يرمونه، لمجرّد اللياقة، بدمية على هيئة دب ثم باثنتين وثلاث وأربع … جيش من الدببة ـ الدمى، لأنّ الفكرة ذاتها تخطر لجميع الكبار، فهل من فكرة كلاسيكيّة وتقليديّة ومتّفق عليها أفضل من فكرة إهداء دب ـ دمية؟
وبالتالي يهرب الولد لأنه بات مشبعاً بالرموز الاجتماعيّة، فيصعد إلى العلّية ويروح يفتّش في الصناديق ويبني بنفسه قّصته الخاصة. يجد وسادة ومزلجين وها هي «تشوتشو»، المربّية السوداء تأتي إليه، وكأنّها «ماري پوپينز» (Mary Poppins). لا يفهم كثيراً ما تقول، إنّما هي لطيفة. لقد ربح الولد أمسيته وهو يلعب ويتسلّى حتى الجنون مع «تشوتشو» التي تحمله وتذهب به بعيداً، بعيداً، في قصص غريبة عجيبة.
وعندما تنتهي حفلة الكبار، يأتي الوالدان لإلقاء تحيّة المساء على طفلهما. وكم تكون مفاجأتها كبيرة حين يجدان هذا الشيء الحيّ الممدّد فوق السرير والساهر على ولدهما! أمّا الأم ـ وهي شقراء للغاية ـ فيغمى عليها من الرعب؛ والأب يسوّي نظّارتيه ويدفع الباب، مهدّداً كما لو أراد القول: «سوف ترين ما سيحصل لك!»
التحول
ولكن ما تلبث «تشوتشو» أن تضرب بعصاها السحريّة فتحوّل الوالدين إلى طفلين. يفقد الأب نظّارتيه وترى الأم أنه صار لها خصلتان من الشعر المربوط. من جديد، لقد صار عمرهما 5 سنوات وها هما يقفزان إلى عنق المربية «تشوتشو» ويتعرّفان عليها كما لو كانت فرداً من أفراد العائلة. وبعد عدة دقائق، عندما يعودان كباراً من جديد، يغادران الغرفة على رؤوس أصابعهما، بهدوء وبابتسامة واضحة. لقد فهما: لقد عادا من جديد ولدين، لفترة خمس دقائق، ولكن دخولهما الوجيز إلى عالم الصغار كان كافياً ليفهما ما كان يجب فهمه.
وهذا ما يجري مع الحكايات. إذا كان أولادنا يرغبون بحرارة أن نقرأ لهم حكايات فذلك يعود إلى أنّنا، بكل بساطة، وبلمحة بصر، نبدّل نبرة صوتنا وها نحن بدورنا ندخل معهم في عالمهم. إذاً، فلنجلس على الكرسي الخشبي الصغير الخاص بالدب ـ الدمية، للوقت الذي تدوم فيه الحكاية …