لن أتحدث اليوم عن أعراض إضطراب طيف التوحد ولا عن الطرق التي تستطيعون من خلالها اكتشافه لدى طفلكم في سن مبكرة. ستجدون معلومات لا حصر لها على مواقع الإنترنت عن هذه التفاصيل. ما يهمني هو التوجه بشكل مباشر إلى أمهات أطفال التوحد، والأهالي الذين اكتشفوا حديثاً أن طفلهم مصاب بهذا الإضطراب. ومن ثم إلى الأشخاص الذين يحكمون على الأمور دون التعمق في التفاصيل. لقد مررتُ بهذه التجربة بكافة تفاصيلها مع إبنتي المصابة بهذا الإضطراب، وأكثر ما كان يوتّرني هو تلك الشائعات التي لا أساس لها من الصحة!
الشائعة الأولى: طفل التوحد إنعزالي
الطفل المصاب بإضطراب التوحد ليس انعزالياً. هو طفلٌ يعاني من اضطرابات حسية تمنعه من القدرة على التواصل مع محيطه. فيجد صعوبة بالغة في تقبل أمور يجدها باقي الناس عادية جداً. وقد التقيتُ بفتاة مصرية مصابة باضطراب التوحد تمكنت من تخطي مرحلة صعبة جداً حتى وصلت إلى الجامعة. وعبرت عن هذه المشكلة بعبارات بسيطة قائلةً “أنا لا أكره الناس، أنا فقط لا أعرف ما يجب أن أقول أحياناً”. وأكملت عن موضوع العلاقات الإجتماعية قائلةً “أتمنى أن يكون لدي أصدقاء، لكنني لا أملك سوى صديق واحد، هو أيضاً مصاب بالتوحد. فعادةً ما يجدني الناس مملة لأنني لا أتكلم كثيراً”.
الشائعة الثانية: طفل التوحد عنيد
حين يبدأ الطفل المصاب باضطراب التوحد بالصراخ في الأماكن العامة، والجلوس أرضاً ووضع يديه على أذنيه.. فهذا لا يعني أنه طفلٌ عنيد أو سلوكه سيء، أو أن والداه لم يربياه جيداً! الأطفال المصابون بهذا الإضطراب يعانون!! يعانون من أمور لا يدركها الأشخاص العاديون. هم يستقبلون الكثير من الإشارات الحسية في وقتٍ واحد: الإضاءة، الأصوات المرتفعة، صوت خرير المياه والعصافير وكلمات الناس والكوب الذي وقع والموسيقى وبكاء الطفل في المكان المجاور.. يستقبلون كميةً هائلة من المعلومات والضجيج ربما لا يستطيع تحملها أشخاص آخرين، فيؤدي ذلك إلى صدور ردات فعل لاإرادية. مع العلم أن أحياناً صوت واحد كصوت مزمار السيارة قد يجعلهم يتوترون. إنها مشاكل حسية وليست سوء سلوك.
الشائعة الثالثة: طفل التوحد لا جدوى منه
إلى أهالي أطفال التوحد.. إياكم أن تهتموا بكلمات الناس الجارحة “أتركوه لا تصرفوا المال عليه، لن يفيدكم بشيء”.. إياكم وإهماله أو نبذه أو تركه.
لا داعي لذكر الأشخاص الناجحين الذين تمكنوا من نخطي صعوبات كبيرة منها اضطراب طيف التوحد وتحقيق أحلامهم. المطلوب هو الكثير من الجلسات العلاجية والمتابعة ومحيط سليم وبيئة محبة. أطفال التوحد ككل الأطفال، لديهم نقاط قوة ونقاط ضعف. على الأهل والأخصائيين أن يبذلوا مجهوداً للتركيز على نقاط القوة وتقوية نقاط الضعف. الأمر صعب، صعب جداً، لكنه ليس مستحيلاً. لن تكتشفوا بالضرورة طفلاً نابغة (مع أن كل شيء ممكن)، لكن بإمكانكم مع الوقت تعليمهم المهارات الإستقلالية والتواصل وقد يصلون إلى مراحل متقدمة بعد ذلك.
الشائعة الرابعة: طفل التوحد مسحور أو مصاب بمس شيطاني
سمعتها كثيراً خلال رحلتي مع طفلتي التي تعاني من اضطراب طيف التوحد. مع الأسف الكثير من الناس مقتنعين فعلاً بهذا الأمر. يمكنكم مراقبة أحاديثهم فقط على مواقع التواصل الإجتماعية وستجدون ما يذهلكم. لا علاقة لما سأقوله بإيماني بالسحر و”العين” وكل هذه الأمور أو عدمه. إنها معلومات لا تخدم موضوعي سأحتفظ بها لنفسي. ما أود أن أوضحه أنه يكفي أن تراقبوا الأعداد المتزايدة لهؤلاء الأطفال في كل بقاع الأرض. “كلهم مسحورون؟”.. “كلهم مصابين بمس شيطاني؟”.. كم استفزتني هذه الكلمة، بل أثارت جنوني. طفلتي ملاك صغير، أطفال التوحد جميعهم يحملون في عيونهم براءة لا توصف، كأنهم في عالم نقي صافٍ أرقى من كوكبنا الغارق بالخبث والأحقاد.
الشائعة الخامسة: هناك علاج نهائي للتوحد
اضطراب طيف التوحد لا يزول. هو يرافق الشخص المصاب به طيلة حياته. قد تقل العوارض، كأن يتمكن من التحكم مع مرور الوقت بعض الشيء بالحركات النمطية كرفرفة اليدين مثلاً.وقد يصل الشخص المصاب إلى مرحلة متقدمة جداً في حياته في العلم أو العمل. كما قد يتمكن من التواصل مع الأشخاص من حوله عبر جمل مختصرة وواضحة. لكن إضطراب طيف التوحد لا يختفي، ولا يمكن معالجته بالدواء كأي مرض. من الممكن أن يتناول الطفل بعض المكملات الغذائية التي تساهم في نمو الدماغ وتقوية العضلات (بما أن أطفال التوحد يعانون من ضعف في المهارات الحركية والعضلات الدقيقة). لكن لا تسمحوا لأحد بأن يكذب عليكم، هذا الإضطراب لا يزول.
الشائعة السادسة: التعامل مع أطفال التوحد يحتاج فقط إلى أخصائيين
نتيجة تجربة شخصية، أؤكد لكم ودون أدنى شك أن دور الأهل وخاصةً الأم هو الأساس. كي لا أُتّهم بالتنظير سأتحدث عن نفسي. كنت أظن أنه يكفي إرسال طفلتي إلى الحضانة مع معلمة ظل لترافقها وتحميها وتعلمها، وبعض الجلسات الإنشغالية وجلسات العلاج اللغوية. لم أكن أحاول التواصل مع طفلتي أو الضغط عليها، كنتُ أكتفي بغمرها بالحب والإهتمام. إلى أن مررتُ بفترة الحجر الصحي، لا جلسات علاج، لا خروج من المنزل، لا مدرسة أو حضانة. فقط أنا وابنتي وأختها ووالدها.
بدأت إبنتي تتراجع شيئاً فشيئاً. تزايدت نوبات الغضب والحركات النمطية وصوت الأنين حين تكون حزينة. وفقدتُ أعصابي بكل ما للكلمة من معنى. كنتُ أفقد طفلتي وأنا عاجزة عن التصرف. إلى أن بدأتُ أقرأ وأتواصل مع المعلمات. كما كان علينا تنفيذ النشاطات في المنزل وإرسال الفيديو إلى المعلمات، إضافة إلى جلسات video call مع معلمة العلاج اللغوي ومعلمة العلاج الإنشغالي. حيث كان عليّ الجلوس بالقرب من طفلتي وتنفيذ التعليمات لمساعدتها.
كي لا أستفيض بالمزيد من التفاصيل، سأكتفي بإخباركم أن مسؤولة قسم التوحد ذُهِلَت من النتيجة ومن طريقة تواصل ابنتي معي ومن تحسنها السريع. حين آمنتُ بها آمنت طفلتي بنفسها. وحين بدأتُ بأول خطوةٍ نحوها تقدّمت نحوي خطوتين.. إلى أن دخلتُ عالمها البريء الجميل الراقي وعشقته.
دور الأم لا يمكن أن يتولّاه أحد، دور الأم لا يعوّضه شيء، دور الأم هو الأساسي.
الشائعة السابعة: طفل التوحد مسؤولية الأم فقط
هي المشكلة نفسها التي تواجهها جميع الأمهات بشكل عام. تربية الأطفال ليست من واجب الأم وحدها، وخاصةً طفل التوحد. يجب أن يتعلّم الطفل المصاب باضطراب طيف التوحد أن التواصل لا يقتصر على أشخاص محددين. يجب أن يشارك جميع أفراد العائلة في تعليمه النشاطات واللعب معه ومحاولة التواصل معه.هي المشكلة نفسها التي تواجهها جميع الأمهات بشكل عام. تربية الأطفال ليست من واجب الأم وحدها، وخاصةً طفل التوحد. يجب أن يتعلّم الطفل المصاب باضطراب طيف التوحد أن التواصل لا يقتصر على أشخاص محددين. يجب أن يشارك جميع أفراد العائلة في تعليمه النشاطات واللعب معه ومحاولة التواصل معه.
الشائعة الثامنة: الأم هي السبب
“جعلتِه يجلس لفترات طويلة أمام شاشة التلفاز.. كنت تمرين بفترة اكتئاب فأثرت على طفلك.. تناولتِ طعاماً غير صحي خلال فترة الحمل؟ أهملتِ طفلكِ.. تركتِه مع المربية..” توقفوا عن لوم الأم!
تسمع أم الطفل المصاب بإضطراب طيف التوحد كماً هائلاً من الإنتقادات، لا صحة لأي تهمةٍ من التهم المنسوبة إليها. إضطراب طيف التوحد ما زال سببه غير معروف عالمياً. والكارثة أن الأم خلال فترة التعرف على وضع طفلها وكيفية التعامل معه ومع فكرة مستقبله المجهول، تكون بحاجة إلى الكثير من الدعم والمساندة. هذه الإنتقادات التي لا أساس لها من الصحة تزيد الأمور سوءاً ولا تفيد بشيء.
ملاحظة: الصورة على غلاف المقال هي صورة إبنتي ❤️
سماح خليفة