الإدخار
إلى كل الأمهات والآباء الفخورين بأن أطفالهم يتقنون فن المقايضة والبيع والشراء والإدخار. تريّثوا قليلاً. نحن نتجه نحو كارثة! نحو جيلٍ متعلّق بالماديات إلى حدّ تفضيلها على العلاقات الإنسانية! نحو جيل يعتبر أن لكل تصرّف مقابل مادي، وكل العلاقات مبنية على المقايضات.. تفكير أطفالنا، رجال ونساء المستقبل أصبح مكتظاً بالخطط، وقلبهم خالٍ من المشاعر. نحن نبني جيلاً من الرجال الآليين، ونقتل الطفولة في أولادنا باكراً، والأهم من ذلك كله نحن نبني جيلاً كئيباً… إليكم التفاصيل عبر هذا المقال.
السيناريو المتداول بكثرة
- أبي كم أحتاج من المال أيضاً كي أشتري لعبتي المفضلة؟
- ما زال المبلغ قليلاً يا بُنَي.
- حسناً تقصد بأنه يجب عليَ أن أدّخر المزيد من المال ؟
- نعم، تحتاج تقريباً إلى ضعف المبلغ الذي تملكه.
- لدي فكرة! سأحاول الإدخار سأبيع لعبتي القديمة وأتوقف عن شراء الحلوى المفضلة لدي، وسأجمع المبلغ بسرعة.
يبتسم الأب فرحاً، لقد علّم إبنه الإدخار، وعلّمه كيف تتم الأمور. سيصبح طفله رجل أعمال ناجحاً حين يكبر…
جيل متعلق بالماديات أكثر من العلاقات الإنسانية
أصبح حلم أطفالنا الحصول على هاتف أو آيباد جديد أو لابتوب. إن طلبت من طفلكَ أن يختار بين الحصول على لعبة جديدة أو زيارة صديقه الذي لم يره منذ مدة، سيختار اللعبة طبعاً. إن سألته إن كان يفضل الذهاب في نزهة عائلية أو شراء قرص يتضمن لعبة جديدة للبلايستيشن أو جهاز الإكس بوكس الخاص به، سيختار اللعبة طبعاً.
جيل يعتبر أن لكل تصرف مقابل مادي
أنا أعرف أشخاصاً بالغين اليوم، يعتبرون أن تقديم خدمة لشخص آخر بالمجان أمرٌ غبي. أعرف فتاةً ترفض إصطحاب صديقتها معها بسيارتها الخاصة حتى لو كان منزلهما في نفس المبنى قائلةً “فلتدخر المال وتشتري سيارة، لستُ مسؤولةً عنها”. لا بل أكثر، أعرف أشخاصاً يظنون أنكَ إن اعتمدتَ على أخيكَ في أمور معينة فهذا يعني أنكَ شخص إتكالي، أو بمعنى أخر أنتَ تستغل أخاك. إلى هذا الحد تتدهور القيم والعلاقات الإنسانية.. إلى هذا الحد !!؟
تفكير أطفالنا أصبح مليئاً بالخطط.. وقلوبهم خالية من المشاعر
إنها الحقيقة، قلتُ ذلك في السابق وسأكرره. أطفالنا نسخ مصغرة عنا. يرى الطفل أباه منهمكاً بالأمور المادية، وربما والدته أيضاً. حياة والديه مكتظة بالعمل، والهدف جمع المال.
“صغيرتي ! ماما مضطرة للذهاب إلى العمل، فهي تحتاج إلى المال كي تشتري لكِ الحلوى والألعاب” هي العبارة المعهودة التي يقولها الأهل لأولادهم. ما يفهمه الطفل حينها هو أن الحياة تحتاج إلى المال لا إلى المشاعر. المال كي نحصل على قوتنا ونحصل على الرفاهية، المال كي نعيش. والمشاعر تأتي في المرتبة الثانية، إن لم تكن في آخر لائحة أولوياتنا.
جيل من الرجال الآليين
نحصل على المال كي نحيا، ونحيا كي نحصل على المال. هذه هي الدوامة التي نسجن أطفالنا داخلها. وللحصول على المال نبني الخطط ونعمل ثم نعمل، عملٌ واحدٌ لا يكفي، ربما عملين ضمن مجالين مختلفين. أو ربما عمل إضافي من المنزل… وفي خضم سعينا للحصول على المال كي نعيش، لا يتبقى لنا الوقت كي نعيش. هذا ما يراه أولادنا.. وهذا ما سيطبقونه.
الأمور المادية تسبب التعاسة
نسعى إلى الحصول على المزيد والمزيد من المال. ومصطلح “قناعة” يُلغى من قاموس مبادئنا وقيمنا. خسارة مبلغ من المال قد يسبب لنا حزناً كبيراً، قد يجعلنا نشعر بأننا فاشلين.. فالنجاح مرتبط بالإنتاجية والحصول على مزيد من المال. ننسى أن هناك ما هو أغلى بكثير من كل هذا، ننسى أن في حياتنا أمور وأشخاص ونِعَم أهم من المادة. ننشغل بالماديات عن الاستمتاع بأبسط تفاصيل حياتنا التي قد تجلب لنا سعادة كبيرة إن عرفنا قيمتها.
تبدّل القيم وقتل المواهب والطموح
النجاح = الحصول على المال..
الحصول على المال يحتاج إلى الانخراط في مجال يعطي إنتاجية.. إدارة الأعمال، أو ربما الطب إن كانت علامات الطفل تخوله.. أو ربما الهندسة أو المحاماة… بهذه الطريقة لا يُتيح الطفل لنفسه اكتشاف مواهبه أو مهاراته الخاصة.. وحتى إن كان سيتفوق في مجال الرسم أو الموسيقى أو التعليم مثلاً.. لن يعطي للأمر أهمية، ما يهم هو أن نختار مجالاً مربحاً، لا مجالاً يمثلنا ويمثل طموحاتنا.. إن كان طموحنا غير مربح، فليُدفن مع أحلامنا. أطفالنا أصبحوا يرون أنفسهم مشاريع استثمار، لا مشروع حياة.
التعب = ضعف..
لا يحق لهم أن يستريحوا، هكذا كان والدهم لا يستريح. فالحياة تحتاج إلى عمل مستمر. وأخذ فترة استراحة سيجعلنا نصبح في آخر السباق، سيسبقنا الجميع. أتعلمون أمراً في قصة الأرنب والسلحفاة ؟ أنا أفضل الأرنب الذي اختار أن يستريح ويأخذ قيلولة، خسارة سباق لا تعني نهاية الكون.. وخوض بعض المعارك المحسومة الربح مضيعة للوقت، لا تحدي فيها ولا إثبات ذات، بالنسبة لي مجرد التنازل لخوض مثل هذه المعارك خسارة.
شراء ما نحب = إسراف..
لا يهم أن نشتري ما نحب، المهم أن نشتري ما نحتاج إليه. حتى رغبات الطفل يتم تأجيلها أو ربما إلغاءها حتى يتوفر المال.
المساعدة = استغلال
ذكرتُ ذلك مسبقاً، أصبح طلب المساعدة نوع من محاولات الإستغلال. وعلى المرء الإعتماد على نفسه في عصر الماديات. إن توقفنا لمساعدة الجميع، سنخسر الكثير من الوقت، ونحن نحتاج الوقت للحصول على المال.
ما الحل ؟كيف نحمي أطفالنا من هذا المستقبل الكارثي ؟
لحل بأيديكم، إليكم بعض النصائح لحماية أطفالكم من الوقوع في فخ الماديات:
توقفوا عن استخدام أسلوب المكافأة أو المقايضة في التربية. وإن اضطررتم إلى اللجوء إليه فليكن المقابل غير مادي، فليكن المقابل غمرة أو قبلة.. مع أن هذه الطريقة غير مستحبة أيضاً، لأنها تعلّم الطفل أن الحب مشروط بتنفيذ أوامر معينة..
توقفوا عن التحدث عن المشاكل المادية أمام طفلكم. هذه الطريقة تجعل الطفل حزيناً ومتوتراً وربما قد يشعر بالذنب لأنكم تنفقون مبالغ كبيرة من المال عليه وعلى دراسته. وقد يحاول التخلي عن الكثير من الأمور التي يحبها لأجلكم. مسؤولية الأهل تأمين حاجات الطفل المادية، وليست مسؤولية الطفل القلق بشأن هذه الأمور.
كونوا قدوة: خصصوا وقتاً لأطفالكم، للعب معهم والتحدث إليهم. حتى لو كان لديكم الكثير من العمل. حاولوا التركيز على نوعية الوقت، نصف ساعة من اللعب والنشاطات المشتركة أو التنزه معاً أو الأحاديث العائلية، أهم بكثير من ساعات في المنزل بينما كل فردْ من أفراد الأسرة منهمك بهاتفه أو حاسوبه. بهذه الطريقة سيدرك الطفل أن الحياة لا تقتصر على الإنتاجية والحصول على المال.
علموا طفلكم التعاطف مع الآخرين: علموه أن مساعدة الغير تجلب سعادةً للمرء أغلى من المال. وأن كل القيم والأديان الإنسانية مرتكزة على التضحية وإسعاد الآخرين دون مقابل.
علموا طفلكم الإدخار لنفسه ولمساعدة الغير: ضعوا في المنزل حصالتين واحدة لشراء أغراضه المفضلة وأخرى للتبرع للفقراء والمحتاجين. هي فكرة جيدة كي يتعلم الادخار وفي الوقت نفسه يتذكر أن مساعدة الآخر أمر مهم أيضاً.
اعثروا على المجال الذي يحبه طفلكم وشجعوه على خوضه. فقد نقضي حياتنا في جمع المال من خلال عملٍ لا نحبه، ونقضي النصف الآخر في إنفاقه على صحتنا. سعادة الإنسان تنبثق من القيام بما يحب.