من أجل مصلحتك»
تعني الكلمة عند الولد ما تعنيه بالضبط.
يكفي أن نسمع ما يقوله الراشدون لطبيبهم النفسي لنرى مدى الضرر الهدّام الذي تخلّفه هذه الجمل الصغيرة العادية، التي تلاحقهم طوال حياتهم. هذا لصالحه أو من أجل مصلحته! أفعل هذا لكي يتحسّن، لكي يتقدّم. في بعض الأحيان، لكي يعود إلى الصراط المستقيم، نجرّه رغماً عنه إلى الطبيب النفسي، لكي نجعله يخضع، ولكي تختفي أخيراً الأعراض. ولكن سوء المعاملة يبدأ هنا.
شاهد من الحياة
تعيش أدلين (17 سنة) مع والدها فرنسوا منذ سن الثالثة. في ذلك الوقت، والدتها قررت الانفصال والطلاق من زوجها فجأة من دون سابق إنذار. ولكي تبني حياتها الجديدة بكل طمأنينة، تخلّت عن حضانة ابنتها لزوجها.
بعد الصدمة الشديدة التي سبّبها هذا الانفصال المفاجئ لفرنسوا، وجد هذا الأخير سعادة كبيرة في الاهتمام بابنته، فمنحها كل ما في قلبه من حب وربّاها كالأميرة. واليوم، أصبحت أدلين مراهقة جميلة، من دون مشاكل، وها هي تتقدّم هذه السنة لامتحانات الثانوية، الفرع العلمي، رغبة منها في دراسة الصيدلة. ويرغب فرانسوا في أن تحل مكانه في الصيدلية التي يملكها منذ عشر سنوات، إذ أصبح لديه الكثير من الزبائن الأوفياء ويريد لأدلين أن تستفيد من ذلك.
فرانسوا فخور جداً بابنته ولطالما أراد لها الأفضل. يصادف اليوم امتحان أدلين الأخير وهو شفهي إنكليزي. يذرع فرانسوا صيدليته ذهاباً وإياباً، منتظراً بفارغ الصبر ليعلم ما إذا كان كل شيء قد سار على خير ما يرام. كان يجب أن تعود ابنته منذ أكثر من ساعة، فانتابه القلق واتّصل بصديقتها الحميمة. ولكن لا خبر.
ما يجهله فرانسوا هو أن أدلين قد أتمّت بنجاح امتحانها الشفهي، لكنها استفادت من وجودها في باريس لكي تتقدّم إلى مباراة لاختيار المغنّين للاشتراك في برنامج للمواهب، فهي تغنّي مذ كانت طفلة. وبرغم وجود مئات المتقدّمين لتجربة الأداء هذه، فقد تم اختيارها للاشتراك في البرنامج. وعندما استقلّت أدلين آخر قطار متّجه إلى قريتها، كان فرانسوا قد أقفل صيدليته منذ أكثر من ساعتين وهو الآن قلق إلى حد الجنون، يهمّ بالاتصال بالشرطة المحلية.
لكن يده تجمدت على الهاتف عندما سمع صوت باب المدخل، حيث ظهرت أدلين. لن أورد تفاصيل الحديث العاصف الذي دار بعد ذلك بين الأب وابنته، ولن أتطرّق للحجة التي اختلقتها أدلين لتبرير تأخيرها، ولكن الأمور عادت إلى مجاريها واستأنفت الحياة مسيرتها الهادئة، حتى يوم الاثنين التالي، عندما رنّ جرس الهاتف ورفع فرانسوا السماعة:
- هنا شركة للإنتاج، الآنسة أدلين بونتي من فضلك!
- ليست موجودة حالياً، ما هو الموضوع؟
- نريد التأكيد على موعدنا المقبل.
- موعد ماذا؟
- الموعد المتعلّق ببرنامج المواهب الجديد. أدلين هي واحدة من المشتركين الخمسة عشر الذين تم اختيارهم.
- لا بد أنك مخطئ، سيدي!
- أليس هذا منزل أدلين بونتي؟
- بلى، سيدي! وأنا والد أدلين، لكنها لم تقل لي شيئاً وهي على كل حال تخضع لامتحانات الثانوية…
- سأترك لك اسمي ورقم هاتفي، فلتتصل بي أدلين عند عودتها من فضلك!
الاعتراف
ذُهل فرانسوا لما سمعه، فاتصل بصديقة أدلين منذ أيام الطفولة. استنطق فرانسوا الشابة فلم تعد تعرف بماذا تجيب واضطرت في النهاية إلى الاعتراف بكل شيء لوالد صديقتها.
على العشاء، بادر فرانسوا بالهجوم: «قولي لي، أدلين. هل تعرفين شركة X للإنتاج؟»
بعد ثوان طويلة، أجابت بصوت مرتجف:
مثل الجميع! إنها تنتج برامج تلفزيونية واقعية.
إلاّ أن الجميع لا يتقدّمون لتجربة أداء من أجل اختيار مغنين ويصبحون بين ليلة وضحاها «نجوم المستقبل»! لماذا لم تقولي لي شيئاً عن الموضوع؟
كنت أعلم كيف سيكون رد فعلك! كنت أعلم أنك ستغضب وأنك لن تدعني أبداً أجرّب حظّي. ثم إنني لم أجد أي فائدة من إثارة غضبك طالما أنه لم يكن قد وقع الاختيار عليّ بعد.
ولكن الآن، هناك فائدة من ذلك؟
اسمع، بابا، لطالما غنّيت، حتى قبل أن أتكلّم! تذكر ذلك. أريد الاستفادة من هذه الفرصة! إنها فرصة حياتي!
«فرصة حياتي»، ما هذا الكلام؟ هل تعتقدين حقاً أن الغناء هو مهنة للمستقبل؟ ألا تدركين أعداد الناس الذين يعيشون على الهامش في هذه المهنة؟ إنها مهنة المظاهر الزائفة، ليست مهنة يُعتمد عليها. كنتِ تتهيّأين لمهنة في المجال الطبي، مهنة نافعة، مستقرّة، تؤمّن لك مردوداً مريحاً، ثمّ بين ليلة وضحاها، تريدين التخلّي عن كل شيء لكي تغنّي بعض الطقاطيق! لقد فقدت عقلك يا ابنتي!
بابا، أنا لا أتخلّى عن كل شيء. أنا واحدة من المشتركين الخمسة عشر الذين تم اختيارهم من بين آلاف المتقدّمين، ولا أريد أن أفوّت عليّ هذا!
أدلين، أنت قاصر، وحتى إثبات العكس، أنا الذي يقرّر.
دفعت أدلين صحنها ونهضت عن المائدة ثم أقفلت على نفسها باب غرفتها.
أدلين، افتحي لي! أنا هنا لأسهر عليك وأمنعك من ارتكاب الحماقات. تعلمين جيداً أنني لا أريد سوى سعادتك. أنت ترتكبين خطأ فادحاً بقصّة الغناء هذه. تعلمين أنني أقول هذا من أجل مصلحتك! افتحي هذا الباب من فضلك.
مصلحة خادعة
يأتي رد فعل ولدكم الغاضب سريعاً، متفجّراً. لم تعد خططكم مطابقة لخططه، فيسعى إلى «الانقلاب» على رؤيتكم المقَوْلَبة والجامدة بنظره. فهي بالنسبة إليه ناتجة عن مرجعيات تربوية عتيقة، من زمن آخر، وإطار اجتماعي اقتصادي مختلف. أمّا أنتم فتقابلون انقلابه بهذه الجملة الجاهزة: «أقول هذا لصالحك»؛ إنها الحجة المثلى لدى الوالد الحائر المرتبك، ليقطع الطريق أمام أي حوار مع ابنه.
تتشبّثون بامتيازاتكم وحقوقكم كأهل، كمَن يتشبّث بعوّامة إنقاذ، لكي تبقى السفينة سائرة في اتجاه طموحاتكم وأهدافكم. لولدكم كامل الحق في الوقوف في وجهكم. فأنتم تشعرونه بعدم الأمان برفضكم رغباته. باسم مصلحتكم الشخصية تستغلّون الثقة التي وضعها فيكم وتنقلون له صورة الوالد (أو الوالدة) الضيّق التفكير البليد الذهن. في الواقع، ليس رفضكم هو ما يولّد الخلاف بقدر ما هي طبيعة حجتكم الخادعة: «هذا لصالحك». فيشعر ولدكم أن مناهضتكم تحقيق حلمه هي خيانة له.
الأمور من منظار مختلف
لو كنتم تتصرّفون حقاً من أجل مصلحته، لَمَا شعرتم بالحاجة لقول ذلك. فكل تجربة خارج الإطار العادي هي تجربة تكوّن شخصية الولد وتأتي «لصالح» قدرته على مقاومة الإحباط وتقوّي حسّه الكفاحي و«القتالي». بعد دخولها البرنامج، قد تُستبعد أدلين بسرعة، لكنّها على الأقل ستكون قد عاشت تجربة فريدة ولو لمدة أغنية واحدة. المستقبل المضمون الاعتيادي والروتيني الذي رسمه لها والدها هو مستقبل خال من المحطّات البارزة، ومن المغامرة، هو مستقبل «محرِّف» أو «مشوِّه» على المستوى الوجودي. الصيدلية عالم تعرفه جيداً، فقد ترعرعت فيها. إنها بحاجة إلى الهروب من محيط يخنقها، من أب يحبسها في مستقبله هو.
إن الآباء الذين يردّدون «هذا لصالحك» لا يعون أبداً الأذى الذي يسبّبونه لأولادهم. فتدخّلهم العاطفي المستمر في حياة أولادهم يدفع هؤلاء إلى الهرب أو قطع العلاقة مع أهلهم كلياً وأحياناً بدون تفسير، تماماً كما فعلت زوجة الصيدلي قبل خمس عشرة سنة. نفهم الآن بشكل أفضل لماذا غادرت وتركت كل شيء وراءها. فالرجال مثل فرانسوا هم سموم بشرية، يعمل سمّهم بجرعات خفيفة فيخدّرون ضحيتهم حتى تموت جميع رغباتها.
الخطاب البديل
«أدلين، كان بإمكانك أن تخبريني بذلك البرنامج التلفزيوني. أفهم حماستك لفوزك في الأداء. أنا لا أشاركك في هذه الحماسة للأسباب التالية… لكنني أعتقد أن ذلك قد يشكّل تجربة غنية بالنسبة إليك. أوافق على اشتراكك في البرنامج شرط ألاّ تهملي امتحانات آخر السنة. يمكن للدراسة أن تترك لك بعض المجال لتُشبعي شغفك بالموسيقى، على ألاّ يعيق ذلك دراستك».
مهما يكن الخطاب الذي تعتمدونه، عبّروا عن آرائكم بصراحة، خصوصاً إذا كنتم غير موافقين، وتقبَّلوا أن يعبّر لكم ولدكم عن آرائه الخاصة من دون أن تمارسوا عليه سلطتكم وتكبتوه. احترام الحوار هو بداية إثبات ملموس في عينَي ولدكم على أنكم تريدون فعلاً العمل لصالحه.
موقع التربية الذكية يشكر لكم متابعته