كانت تحدثني كل يوم عن خوفها على أطفالها من الغربة، والرغبة الشديدة بالعودة إلى الوطن. كانت تخاف أن يتربى أولادها على قيم مختلفة عن تلك التي نؤمن بها، وأن تسلك ابنتها طريقاً غير سليم لكثرة ما تشاهده من انحراف لدى الشباب في البلد الذي تعيش فيه.
كنتُ دائماً أطمئنها بأن الأمر يعود إلى التربية، وأذكرها بأن السيء موجود في كل المجتمعات كما الجيد. وأنبهها من اتخاذ قرار ستندم عليه طيلة حياتها عبر جعل أولادها يعودون إلى وطن خالٍ من كل مقومات الوطن، خالٍ من الأمان ومن أقل حقوق ومقومات البشر الطبيعية. فالغربة غربة الذات وغربة النفس عن إيجاد ما يحتويها، لا غربة المكان.
كانت مخاوفها تتزايد كلما كبرت ابنتها أكثر. إلى أن زارت موطنها كما كل إجازة سنوية وكانت ابنتها قد بلغت الثالثة عشر من عمرها. كنا نتقابل تقريباً بشكلٍ يومي. وكنتُ أراقب سلوك أطفالها المختلف عن سلوك أطفال بيئتنا وطريقة تربيتها والقوانين التي تعتمدها في حياتها اليومية معهم.
وقبل أن ترحل بيومٍ واحد جلست بالقرب منها وتحدثنا عن هذا الموضوع بالتحديد. فأخبرتُها بما شاهدتُ ورأيتُ بنفسي بعيداً عن التنظير:
- كانت ابنتها تجلس مع باقي الأقارب، وكان بينهم طفلة تبلغ من العمر خمس سنوات، تقلب الفيديوهات على موقع التيك توك. فنظرت بتول إلى تلك الفتاة وقالت لها “هذه الفيديوهات ليست لعمرك، الأطفال في سنك لا يجب أن يتابعوا هذا الموقع”. فأجابتها الطفلة “مَن قال لكِ هذا”. أجابت بتول “أمي”.
- كانت إحدى البنات وعمرها حوالي 8 سنوات تردد أغنية باللغة الإنجليزية، مشهورة جداً على مواقع التواصل الإجتماعي. فنظرت إليها بتول وقالت “ولكن كيف ترددين أغنية كهذه؟ إنها تحتوي على ألفاظ بذيئة، إنه أمرٌ غير لائق”. فأكملت الفتاة الأغنية غير آبهة بكلام بتول كأن شيئاً لم يكن.
- كان كل شيء في حياة طفليها منظماً، وقت النوم، وقت الطعام، وقت للقراءة، ووقت محدود ومحدد للآيباد. كان الأطفال حولهما يمسكون بالهواتف النقالة والآيبادات طيلة اليوم وطيلة الوقت. ولم يحاولا أن يطلبا من والدتهما استخدام الوسائل الإلكترونية لوقت إضافي نهائياً. لم يتأثرا بمحيطهم بل حاولا تغييره وكانا يكرران على الأطفال أن هذا الأمر خطير وأشبه بالإدمان.
- ذات يوم بدأ الأطفال يسخرون من طفلة أصغر منهم لمجرد أنها ما زالت تتبول في الحفاضات. ويهربون منها ويقولون أنتِ صغيرة ورائحتك كريهة ما زلتِ ترتدين الحفاض. فصرخت بتول “لِمَ جعلتموها تبكي، من الخطأ أن تسخروا من الآخرين، أنتم تتصرفون بطريقة بشعة جداً”. وأمسكت يد الطفلة وأخذتها إلى والدتها.
- كانت تؤدي الطقوس الدينية بإتقان ودون طلب من والدتها، وكانت تصلي بمفردها وتختار غرفة هادئة، حسب قولها كانت تبحث عن جوٍ هادئٍ يليق بلقائها مع الله.
فنظرت إليّ صديقتي وهي تسأل ما الذي تقصدينه؟ لم أفهم الهدف من حديثكِ بعد.
فأجبتها أن القيم والأخلاق يحملها المرء في قلبه وفكره أينما حل. وأنها أحسنت تربية أطفالها في الغربة متحملة كل المسؤولية بمفردها. فيما أساء التربية مَن هم متواجدون بين أهلهم ولديهم كل الدعم والمساندة متى شاؤوا. أخبرتها، وأنا أدرك كم التعب والخوف والألم والشوق والوحدة الذي تعيشه بمفردها في الغربة “صديقتي أنا فخورة بكِ. أنتِ بمفردكِ دون مساعدة أحد، رغم كل ما مررتِ به، أحسنتِ التربية بامتياز في بلاد الغربة. وابنتكِ كانت قدوة لكل مَن قابَلتهم في أرض الوطن”. فدمعت عيناها وغمرتني، كأنها وجدت في كلماتي ما كانت تتمنى أن تسمعه قبل أن ترحل مطمئنة من جديد.
سماح خليفة