أول تعرف لي على التربية الإيجابية
أذهب أحياناً للتنزه في مكتبة في فترة استراحتي بين الظهر والساعة الثانية من بعد الظهر، وأتجول بحثاً عن الكتب التي قد تثير اهتمامي. منذ أكثر من سنة بقليل، ذهبت للبحث في قسم “علم النفس” عن كتب حول التطوير الذاتي. كنتُ أطرح الكثير من الأسئلة حول نفسي، كنتُ أرغب بفهم طريقة تطوّري، وكنتُ أبحث عن إجابات كي “أتطوّر بشكلٍ أفضل”.
صادفت كتاباً تعليمياً بعنوان “الأهل الفعالون” لتوماس غوردون Thomas Gordon. كرهتُ العنوان، إنه يوحي بأنه من نوع الكتب التي تحتوي على فكرة تسويقية. كأننا نستطيع أن نصبح أهلاً فاعلين بمجرد قراءة كتاب.
قلّبت أوراقه بداعي الفضول. رأيتُ أن هذا الكتاب مليء بالأمثلة. كان هناك حوارات بين الأهل والطفل لإبراز ما يجب تفادي قوله للطفل كي يتمتع بتقدير جيد لذاته ويتطور نحو الأفضل بأفضل الطرق. عند النظر إلى قائمة الأمور التي لا ينبغي قولها، وجدتُ نفسي تماماً: إنها أنا. لم أتخيل أبداً هذا. كنتُ أظن أنني أم جاهزة دائماً للإصغاء إلى طفلها وتقدم له الأفضل.
كنتُ أماً تستغرق وقتاً في الاستماع إلى أطفالها حين يمرون يمشكلةٍ ما. وأخبرهم بما أفكر فيه وأعطيهم النصائح.
كنتُ أيضاً أماً تمدح أطفالها كثيراً: رسوماتهم كانت دائماً “جميلة جداً”، وما يصنعونه كان دائماً “رائعاً”، حين كانوا يتسلقون كانوا يبدون “رشيقين”، وحين يقفزون كانت قفزاتهم “عالية وبعيدة”.
كل هذه السلوكيات كانت ضمن قائمة الأمور التي يجب التوقف عن القيام بها. بدأتُ أتساءل ما الذي قد يكون مضراً للطفل فيما يتعلق بتصرفاتي مع أطفالي. لقد أثار الكتاب فضولي حقاً فاشتريته. كنتُ أريد أن أرى ما هو ذلك البديل الذي قد يكون أفضل لأولادي.
الاحترام العميق للطفل
لم أشعر بالخيبة والحزن: فقد كانت المرة الأولى التي أرى فيها نموذجاً تربوياً مختلفاً عن كل ما كنتُ أعرفه (لقد رأيتُ الكثير من النماذج التربوية حولي من الأكثر تساهلاً إلى الأكثر صرامةً). هذه المرة لم يكن الإختلاف ناتجاً عن التقنية، بل عن فرضية أكثر عمقاً: لم يكن الوالد (الأم أو الأب) هذا الكائن الأعلى الذي يعلم، يحكم ويقرر، ويقول للطفل ما الذي عليه فعله وكيف يمكنه فعله. في هذا النموذج يتم احترام الطفل ككل، ولا نحكم عليه، نفهم ما يشعر به، ونتواجد للإصغاء إليه. وهذا لا يعني أن نقول له “تستطيع القيام بما تريده”. لأننا بالطبع نحن أيضاً لدينا احتياجاتنا التي يجب احترامها. نتعلم كيف نقولها ونطلبها باحترام.
الأمر يعمل ضمن اتجاهين: يحترم الوالد احتياجات الطفل، لكنه يطلب أيضاً أن يتم احترام احتياجاته.
كان هناك الكثير من الحالات الملموسة، وهو أمر ضروري حين نريد أن نحاول العمل بطريقة مختلفة تماماً عن تلك التي لطالما عرفناها. كنتُ أشعر بالحماس لتجربة كل هذا مع أطفالي. ولم أشعر بالخيبة: لقد كانوا صغاراً (يبلغان سنة و3 سنوات من العمر) وعلاقتي بهما قد تحوّلت بشكل كبير في وقتٍ قصير جداً. الأمر كان مثيراً جداً! لا بل مذهلاً. كنتُ أظن أنني أستمع إلى طفلَي كثيراً، لكنني تعلّمتُ أن أستمع بطريقة مختلفة. لقد رأيتُ تطورهما: كانا يشعران بأنني أستمع إليهما حقاً بشكل حقيقي، صادق، وأحترمهما، وقد أصبحا يتعاملان معي بانفتاح أكثر من أي وقتٍ مضى.
التعامل الإيجابي الذي نقدمه، نحصل عليه بالمقابل
بعد بضعة أسابيع من الممارسة، كنتُ في المنزل وأصبتُ بضربة في ركبتي. أمسكتُ بركبتي بين يدي، وأطلقتُ أنيناً. اندفع طفلَي اللذان كانا يجلسان على مقعديهما لتناول الطعام نحوي، وبدآ بتقبيلي وغمري والتأكد من أنني بخير. حتى ذلك الحين، حين كنتُ أشعر بالألم أمامهما كانا لا يبديان أي تأثر. كنتُ أظن أنهما صغيران جداً على الانتباه إلى أن والدتهما تتألم. لم يكن الأمر كذلك. تعاملي اللطيف خلال الآونة الأخيرة معهم، جعلهم يتصرفون معي بلطف بالمقابل. كان من المؤثر جداً أن أشعر بأن هناك مَن يحبني إلى هذا الحد.
تذكرتُ أنني في السابق، حين كانا يتألمان، كنتُ أقول لهما “لا بأس، سيكون كل شيء على ما يرام”. لم يكن هناك ما يبدو ضاراً آنذاك، كنتُ أظن أنني أطمئنهما وأساعدهما على التحسن بشكل أسرع. لكن من خلال القيام بذلك، لم أكن أصغي إلى ما يشعران به، وكنتُ أقرر مدى الخطورة وفق رأيي فقط. فيما كانا هما فقط اللذان يستطيعان معرفة حدة الألم.
وحتى لو لم نكن نشعر بالألم، فنحن نفضل أن نسمع السؤال التالي “هل تشعر بالألم؟” على عبارة “لا بأس”. لذا حين كنتُ أتألم أمامهما ربما كانا يفكران بنفس الطريقة “لا بأس، سيكون كل شيء على ما يرام”. والآن عندما يؤذيان نفسيهما، أسألهما إذا كانا يشعران بالألم، وإلى أي مدى يشعران بالألم، ما الذي يشعران به، هل يحتاجان إلى غمرة كبيرة… وفي النهاية أرتجل ما أقوله وفق أجوبتهما، لأنه غالباً ما سيقولان لي “لا، أنا بخير. لا تقلقي!”.
وفي هذا اليوم، حين تعرّضتُ لإصابة وشعرتُ بالألم، رأيتُ أنهما كانا على استعداد للإستماع إلي بطريقة تعاطفية. لقد بدآ يحترمان ما أشعر به منذ بدأت أحترم ما يشعران به.
إنها بداية التغيير. في الماضي كنتُ أتساءل عما عليّ فعله كي يستمع أطفالي إلَي. إلى أن طرحت السؤال بطريقة مختلفة: كيف أستمع إليهم بطريقة مختلفة، وحدث الباقي دون أي عناء تلقائياً، بشكل طبيعي. اتخذت العلاقة هذا البعد من التصرفات اللطيفة المتبادلة: إصغاء، احترام، اهتمام من الآخر، هي الأمور التي جعلتنا نتوقف عن الانخراط في صراعات دائمة، بل في علاقة إنسانية غنية وفي تحرك مستمر. ما زالت الجدالات موجودة، حتى أنها موجودة بشكل يومي، الأمر طبيعي في علاقة سليمة: لدينا جميعنا احتياجاتنا الخاصة واحتياجاتنا لا تتوافق 100% مع احتياجات أحبائنا.
لكن الصراع لم يعد اليوم يخيفني لأنه لم يعد يرهقني، (قراءاتي لم تقتصر على كتاب، بل على العديد من الكتب المختلفة حول التربية، لقد قرأت الكثير حول التواصل الخالي من العنف، والإستماع إلى مشاعري الخاصة بالتحديد). من خلال التعامل مع الصراع بطريقة سليمة، يخرج كل شخص فائزاً وتصبح العلاقة أكثر غنىً.
إنه ليس عالم الدببة الخيّرة Care Bears (الأشخاص الطيبين البسطاء بطريقة خيالية- مثالية).
أنا لا أدعي أنني أعيش في فقاعة مثالية. بين العمل، والضغط والتعب والتسوق وغسل الملابس والأطفال (…) لا يمكننا أن نكون دائماً هادئين ومستعدين وصبورين.
لكن الأمر طبيعي. لا أتردد في نفسيره لطفلَي بطريقة غير مؤذية، وهما يفهمانه. هما أيضاَ لا يستطيعان أن يكونا دائماً في حالة معنوية جيدة، بين علاقاتهما مع باقي الأطفال والمعلمة والدرس والتعب (…) لكن يمكننا تفهمهما. نحاول احترام احتياجات بعضنا البعض. ونحترم ألا يكون الشخص الآخر دائماً في قمة التجاوب.
كما أنني محظوظة جداً لوجود زوج متواجد بشكل دائم، ونحن لا نتردد سواء كنتُ أنا أو هو في أن نقول لبعضنا: “أنا بحاجة إلى استراحة، هل يمكنك الاعتناء بهم لبعض الوقت؟”.