الغيرة عند الأطفال : لماذا يغار الأطفال وما دورنا كأهل ؟
ما مدى أهمية دورنا كأهل والطريقة التي نتعامل من خلالها مع غيرة أطفالنا وتنافسهم، في الحفاظ على سعادتهم وصحتهم النفسية في المستقبل؟
الوقائع :
- التنافس والغيرة بين الأخوة والأخوات ظاهرة عالمية! يجب أن نعلم أن كل جهودنا لتجنب القيام بمقارنات أو تفادي تفضيل طفل على آخر أو محاولة تقديم “نسبة حب متساوية” لكل أطفالنا لن تمنعهم عن الشعور بالغيرة وحصول النزاعات.
- على الرغم من حقيقة أننا نحن أنفسنا عانينا من الغيرة والتنافس في طفولتنا من أشقائنا أو شقيقاتنا، إلا أننا غير مجهزين للتعامل مع عداوة أطفالنا لبعضهم.
- العلاقات التي أقمناها مع إخوتنا وأخواتنا ما زالت تثير فينا ردود فعل عاطفية قوية اليوم: سواء كانت سلبية أو إيجابية. هذه العواطف تستطيع أن تؤثر على طريقة تعاملنا اليوم مع إخوتنا وأخواتنا، كما أنها تنتقل من جيل إلى آخر (إذا كنا لا نحب شقيقنا، هناك احتمال كبير ألا يحب أطفالنا أطفال شقيقنا).
- تجاربنا الأولى في علاقاتنا مع إخوتنا وأخواتنا تحدد اليوم طريقتنا في التصرف والتفكير وفي الكيفية التي ننظر عبرها إلى أنفسنا. الشخص الذي كان يعامله إخوته أو أخواته كفردٍ “لا فائدة منه” يميل إلى الإحتفاظ بهذه الفكرة عن نفسه حتى حين يصبح راشداً. الأخ الأكبر (أو الأخت الكبرى) الذي “يقود إخوته” لديه ميل إلى أن يصبح “قيادياً قائداً”، يتخذ القرارات والمسؤوليات نيابةً عن الآخرين. الأخت الصغرى التي تشعر بأنها “أقل أهمية” من أختها تميل إلى الإفتقار إلى الثقة بالنفس، إلى آخره…
باختصار، أن نسعى إلى أن يحب أطفالنا بعضهم البعض أو يصبحوا أصدقاء لن يفيد بشيء. من الأفضل أن نعلمهم كيف يتحدثون معاً، وكيف يستمعون إلى بعض، كما يجب أن نساعدهم كي يتعرّفوا على اختلافاتهم وعلى إيجاد حلول بأنفسهم لتجاوز هذه الإختلافات.
ليس قبل أن يقولوا كل شيء
يحتاج الأطفال إلى أن يشعروا أن هناك من يفهمهم ويصغي إليهم. هم يحتاجون إلى أن يعبروا عن مشاعرهم اتجاه بعضهم البعض. تجاهل عواطف أطفالنا ومشاعرهم السلبية وإنكارها (مما يؤدي إلى المخاطرة بدفنها فيهم وقمعها) قد يؤدي إلى عواقب نفسية وخيمة في طليعتها الغيرة.
أطفالكم يشعرون بالضبط بما شعرتم به حين كنتم صغاراً .. بالغيرة وأشياء أخرى! هم يشعرون أنهم عرضة للخطر بسبب هذا الدخيل (الأخ أو الأخت) الذي يسرق منهم كل شيء: وقت وحب أهلهم، ألعابهم، ملابسهم، إلى آخره…
دورنا هو أن نعلمهم كيفية التعبير عن مشاعرهم (من خلال استعدادنا لسماعهم وتقبلهم)… مع منعهم عن القيام ببعض السلوكيات وردود الفعل (كإيذاء أنفسهم). كما يجب أن نشرح لهم كيفية التعبير عن غضبهم بطرق مقبولة وهذا ما سيخفف من الغيرة.
إليكم المبادئ الأربعة الأساسية الكبرى للتعامل مع ٍسلوكيات أطفالنا العدوانية تجاه بعضهم البعض:
- عوضاً عن نبذ المشاعر السلبية التي يكنها أحد أطفالكم تجاه الآخر، دعوه يدرك مشاعره. صفوا الشعور الذي يعيشه طفلكم: “يزعجك أن أقضي الكثير من الوقت مع ليلى”، “لديك شعور أنها تقوم بذلك فقط لإزعاجك”.
- امنحوا لأطفالكم عن طريق التخيّل ما لا بستطيعون امتلاكه في الواقع. “أنت لا تريدها هنا، أحياناً تتمنى لو أنها لم تكن موجودة”، “تفضل لو أنها تسألك قبل أن تستعير ألعابك”.
- ساعدوا الأطفال على التخفيف من حدة المشاعر العدوانية من خلال وسائل رمزية أو إبداعية. قوموا بحثّ أطفالكم على التعبير عن مشاعرهم في لحظات غضبهم، وفق عمرهم: عبر دمية، وسادة، عبر رسم أو كتابة ما يشعرون به. إذا كانوا لا يرغبون بالكتابة أو الرسم… قدموا لهم الأمثلة عبر استخدام هذه التقنية أمامهم في المرة القادمة التي تشعرون فيها بالغضب، وسيقومون بتقليدكم قريباً.
- إيقاف السلوك القاسي والعنيف الناتج عن الغيرة: أظهروا لهم كيف تعبرون عن مشاعر غضبكم بطريقة آمنة. امتنعوا عن مهاجمة المهاجم! “لا تضرب، قل لأختك بأنك غاضب عبر استخدام الكلمات، لا عبر ضربها بيديك”، “تبدو غاضباً، بإمكانك تصفية الحسابات مع أخيك دون استخدام الشتائم”، “بدلاً من شتم أخيك، قل له إن هذا الأمر يزعجك، أو أخبره عما تريده”.
- فكروا أيضاً في أن تقدموا لهم مثالاً جيداً: ابتعدوا عن كل أنواع العنف أو الإهانات اتجاه أيٍ كان!
فيما يلي بعض النصائح حول طريقة تطبيق هذه التقنيات:
اقترحوا إشارة صغيرة، رمزاً سرياً يستطيع طفلكم أن يؤديه لكم حين يشعر بالغضب يتصاعد… كي تعطوا له إشارة بالمقابل بأنكم رأيتموه وبأنكم تفهمونه.
إذا لم يكن لديكم الوقت الكافي للاستماع إلى جميع “شكاوى” أطفالكم: قدموا لكل منهم “دفتراً للشكاوى (الإعتراضات)” حيث يمكنهم أن يكتبوا فيه أو يرسموا في كل مرة يتشاجرون فيها. بالتالي ستقل حاجة أطفالكم إلى اللجوء إليكم والشكوى باستمرار.
تجنبوا طرح أسئلة كالتالي “هل سيعجبك إن تصرّف/ت أخاك/أختك بنفس الطريقة؟”. إنها لا تفيد بشيء، لأنه إن كان عليه الإجابة على هذا السؤال بصدق سيكون مضطراً إلى الإعتراف بأنه لن يقبل بذلك. من الأفضل استخدام صيغة مثل “أنا متأكد/ة أنه يمكنك تخيّل ما قد يسببه لك أن يقوم شخصٌ ما بنفس التصرف معك”. ستساعده هذه الجملة على التفكير في الأمر دون الشعور بالذنب أو لوم نفسه.
لا يمكننا اختصار هذه النصائح بجملة بسيطة… لكن إليكم الفكرة التي قد تغير حياتكم: “كلما أصرينا أن يحب أطفالنا بعضهم (عبر إجبارهم على قمع مشاعرهم السلبية)، كلما كرهوا بعض أكثر! وكلما أتحنا لهم فرصة التعبير عن كرههم، كلما أحبوا بعضهم أكثر!!!
مخاطر المقارنة
كما رأينا، فإن الأطفال “بطبيعتهم” عنيفون اتجاه بعضهم البعض… لكننا نحن كأهل، نقدم لهم أسباباً إضافية كي يتصرفوا بعنف. فمن خلال قيامنا بالمقارنة فيما بينهم، نؤجج خلافاتهم وتنافسهم.
مهما كان نوع المقارنة التي تقومون بها فيما بينهم، فعواقبها دائماً سيئة! إليكم ما يقوله أطفالنا عن قصد أو دون قصد، حين نقوم بمقارنتهم ببعض:
- “أنا أكره أخي/أختي”.
- “أنتِ تحبين دائماً الآخرين أكثر مني”.
- ” كل ما أقوم به، بنظرك سيئ”.
- “أنت لا تحبينني كما أنا”.
- ” لن أتمكن أبداً من أن أصبح كما تريدين، إذن ما الداعي للمحاولة؟”.
- “إذا لم أتمكن من النجاح في أن أصبح الأفضل، فسأنجح أكثر في أن أصبح الأسوأ!”.
كما أن لدينا الميل إلى أن نكرر المقارنات التي كان يجريها أهلنا حين نصبح راشدين: عبر مقارنتنا بالآخرين… ما يجعلنا نشعر بالحزن بما أنهم يجدون دائماً مَن هم “أفضل منا”. (يا إلهي!… هل ميلي إلى مقارنة نفسي بالآخرين حين أغضب وشعوري الأزلي بعدم الرضى يأتي من هنا؟).
إذاً علينا بذل الجهد والتفكير قبل أن نتكلم مع أطفالنا كي لا نقوم أبداً بمقارنتهم ببعضهم. يجب منع المقارنات غير المحبذة، التي تقلل من تقدير الشخص لنفسه (“إنتبه يا علي! حتى أختك الصغرى تأكل بطريقة أكثر نظافة منك”)… وحتى المقارنات المحفزة التي قد تحث أحد الأطفال على التقليل من شأن الآخر (“تصرُف جيد يا علي، أنت لا تترك ألعابك على الأرض مثل دينا”).
الطريقة الأفضل هي الوصف: وصف ما نراه، وصف ما يعجبنا (“أرى غرفة تعمها الفوضى”)، وصف ما لا يعجبنا (“أرى فتاة صغيرة لا تأكل بطريقة نظيفة”)، وصف ما يجب القيام به (“أتمنى لو أنك ترتب غرفتك قليلاً”).
الأمر المزعج أنه، حتى لو لم نقم بالمقارنة، قد يشعر الأطفال بأننا نقارن بينهم: فغالباً ما يقول الطفل مثلاً في هذه اللحظة “دينا تجعلكِ تضحكين طيلة الوقت، أما أنا فلا”. في الوقت نفسه فإن القيام بالثناء على أحد الأطفال قد يجعل الشخص الآخر يشعر بأنكم تقللون من شأنه “لقد قال أبي إن علي كان مهذباً، هذا يعني أنه يظن أنني لست مهذبة”. في هذه الحالة، علينا أن نثني على أطفالنا جميعاً في الوقت نفسه. وفي حال لم نقم بذلك، من المهم أن نصف الموقف (“يجب أن تكون فخوراً بنفسك يا علي لأنك حصلت على علامة عالية جداً في القراءة” أو مثلاً “أنتَ تستطيع العد الآن لأنكَ أصبحت كبيراً يا محمد”). وبدلاً من تفجير حماسه وإعجابه أمام باقي الأطفال، بإمكانكم تأجيل الأمر إلى أن تجلسوا مع الطفل على انفراد (“أهنئكَ على هذه العلامة يا صغيري، أنتَ تستحقها تماماً!”).
تجنبوا أيضاً أي منافسة بين أطفالكم! عبر إعلامهم مثلاً: “صغاري، نحن لا نقيم مسابقة يفوز فيها مَن يأكل بشكلٍ أفضل”. أو (لاحقاً): “ليس عليكم المقارنة بين علاماتكم وعلامات أخوتكم، سنراجع تقارير العلامات الخاصة بكلٍ منكم على انفراد للتعرف على مدى تقدمكم أو على المشاكل الخاصة بكم”. يجب أن يعرف أطفالكم أن “والدهم ووالدتهم” يتعاملان معهم كأفراد منفصلين.
مع الأسف، اعتدنا على ارتكاب هذا “الخطأ”: حين يشعر أحد أطفالنا الكبار بالغيرة من أحد أطفالنا الصغار غالباً ما نقول: “نعم، لكنك الأكبر، يمكنك القيام بهذا الأمر أو ذاك، بينما أختك صغيرة جداً”. إن الإستماع إلى طفلكم، وإظهار التعاطف أفضل من القيام بهذا النوع من المقارنات.
4- تقديم نفس الشيء، يعني التقصير أيضاً
نحن نريد أن نكون عادلين مع أطفالنا بأي ثمن، إعطاء “نفس الشيء” أو التعامل مع أطفالنا بمساواة قد يقودنا إلى القيام بأمور منافية للمنطق تماماً.
لفهم معنى عبارة “تقديم نفس الشيء يعني التقصير” بشكلٍ أفضل، سنستخدم مثلاً شائعاً جداً: “قصة الزوجة الشابة التي ذهبت للقاء زوجها كي تسأله “مَن تحب أكثر أنا أو أمك؟”. لو أجابها حينها “أحبكما أنتما الإثنتين بشكلٍ متساوٍ” لكانت مأساة! لكنه بدلاً من ذلك أجاب: “أمي هي أمي. أما أنتِ فهي المرأة الساحرة التي أحبها وأود أن أقضي بقية حياتي معها”. أن تحب شخصاً آخر بنفس المستوى يعني أن تحبه بشكلٍ أقل. أما أن تحب شخصاً بطريقة مميزة (لنفسه)، فهذا يعني أن تحب الشخص بقدر ما يحتاج أن تحبه.
لذا علينا أن نبذل جهداً في تقديم لكل طفل ما يستحقه ويحتاجه بشكل فردي (وفقاً للاحتياجات التي يستحقها كل طفل)، بدلاً من العطاء بشكلٍ متساوٍ (بكميات يتم قياسها بشكل دقيق).
أربعة أمثلة ستشرح لكم بشكل ملموس المفاهيم التي يجب تذكرها وتطبيقها:
بدلاً من القلق بشأن تقديم نفس الكمية بالتحديد، إبحثوا عن الاحتياجات الفردية المتعلقة بكل طفلٍ على حدىً. والآن، حين يقول طفلكم أثناء تناول الطعام: “لقد قدّمتِ له كمية أكبر من حصتي!”، بدلاً من الرد “هذا ليس صحيحاً، لقد قدمتُ لكما أنتما الإثنين نفس الكمية”، أجيبوا “تناول حصتك من الحلوى وحين تنتهي يمكنني إعطاؤكَ المزيد إن أردت ذلك”.
بدلاً من القول بأنكم تحبونهم جميعاً بنفس الطريقة، اظهروا لأطفالكم أنكم تحبون كلاً منهم بشكلٍ مميز فريد. فحين يسألون “من أكثر طفل تحبه؟” بدلاً من الإجابة “أحبكم جميعاً بنفس المستوى”، أجيبوا “كل منكم مميز بالنسبة لي. أنتَ علي الوحيد الذي أملكه في هذا الكون بأسره، لا يوجد أحد مثلك. ليس هناك مَن يملك نفس أفكارك وأحاسيسك وابتسامتك… أنا سعيدٌ جداً لأنك طفلي”.
“الوقت المتساوي” قد يبدو “وقتاً أقل”: خصصوا لكل طفلٍ الوقت الذي يحتاجه. إشرحوا لمن يطلب الإهتمام السبب الذي يمنعكم عن التجاوب معه على الفور، وما ستقومون به لتعويضه عن ذلك: “لا أستطيع أن ألعب معك الآن يا علي لأنه عليّ أن أعطي حماماً لأختك الصغرى. حين أنتهي من ذلك، سآتي للعب معك قبل البدء بتحضير الطعام”.
ليس الهدف عدم إعطاء نفس الكمية لكل طفل إطلاقاً، لأن هناك ظروف تكون فيها نسبة صحة هذه الطريقة 0%: على سبيل المثال في الكرنفالات والإحتفالات، لن تقوموا بشراء المثلجات لأحد أطفالكم، ورفض شراء المثلجات للطفل الآخر! لكن، “في حال قررتم عدم تقديم نفس الشيء للطفلين لأي سبب من الأسباب، فلا بأس بذلك. الأطفال الذين لم يحصلوا على المثلجات سيبقون على قيد الحياة. إنما الطريقة التي تتفهمون عبرها خيبتهم وتتقبلونها، ستساعدهم على استيعاب عدم المساواة في الحياة”.
إنتبهوا أيضاً إلى التفضيل الذي قد تعبرون عنه. فقبل كل شيء، يجب ألا نبدي تفضيلنا لطفلٍ على آخر؛ لا أمام باقي الأطفال، ولا أمام الطفل نفسه. إضافة إلى ذلك، لتجنب تفضيل طفل على آخر… يجب في البداية أن تدركوا أنه إن أردتم أن تكونوا صادقين مع أنفسكم فهناك دائماً طفل مفضل لدى الأهل. “معرفة ميولنا تضعنا على الفور في وضعية أفضل لحماية طفلنا “الذي لا نفضله”؛ كما أن ذلك يساعدنا على حماية طفلنا المفضل من الضغط الذي عليه تحمله للحفاظ على تراتبيته من ناحية تفضيلنا له، ومن العدوانية المحتمة تجاهه من قِبَل إخوته وأخواته إن أظهرنا أنه الطفل المفضل لدينا”.
في نهاية هذا المقال، إليكم نصيحة لتجنب “لوم أنفسكم” على تحيّزكم لأحد أطفالكم أو تفضيلكم له: “ليس من الضروري إظهار نفس العاطفة لكل طفل، من الطبيعي جداً أن نكنّ مشاعر مختلفة تجاه أطفالنا المختلفين. الشيء الوحيد الضروري هنا، هو إيلاء نظرة جديدة للطفل الذي لا نفضله، والبحث عن الأمور المميزة لديه، ومن ثم جعله يشعر بالسعادة التي تسببها لنا هذه الميزة التي يملكها. هذا كل ما نستطيع أن نفرضه على أنفسنا، وكل ما يحتاجه أطفالنا. أن نُقدّر خصوصية كل طفل، وأن نتقبله كما هو، وأن نتصرف بطريقة تجعل كل طفل يشعر بأنه الأول في نظرنا”.
أخيراً، سنترك لكم “جملة سحرية” ستستخدمونها من الآن حين يسألكم أحد الأطفال لِمَ اشتريتم شيئاً لأحدهم ولم تشتروا له مثله: “أنتَ تعرف جيداً أن في أسرتنا، يحصل كل طفل على ما يحتاج إليه. أحياناً يكون دور علي، وأحياناً يكون دورك أنت. لكن في نهاية الأمر، يحصل كلاً منكما على ما يحتاج إليه”.