التغاضي عن الأمور في التربية:
سترون حيثما نظرتم ولداً يحمل هاتف والديه أو لوحاً ذكيّاً. إنه يشاهد رسوماً متحركة أو يلعب لعبة ما، بهدوء كالماء الراكد.
لم يعد الأولاد يركضون بين الطاولات في المطاعم، ولا يتحركون ويتلوون في وسائل النقل أو في السيارات، كما يمكن أن تروهم جالسين على المقاعد في الحدائق العامة.
عندما أصبحت جدّة، تفاجأت حين لاحظت كم تغيّرت تربية الأطفال، وكم أنّ بعض الأمور غير مقبولة.هذه الأمور كانت غير مقبولة في الماضي إنما لم يكن هناك من يقولها أو من يهتم لأمرها.
قال لي والداي وأصدقائي إنّ الولد يجب أن يكون نظيفاً وشبعاناً وتركوني أتدبّر أموري بنفسي في ما يتعلّق بما تبقّى من مسائل. اشتريت كتباً تتحدث عن علم النفس للأطفال وأخرى للمربّين.
اعتدت أن أصرخ بشأن بعض الأمور لكني توقّفت عن ذلك بسبب نظرات ابنتي. وتوقّفت أيضاً لأني تذكّرت كم كنت أنزعج عندما كانت أمي تفعل ذلك.
لمَ أصرخ وأفرض وأعاقب طالما أنّ أولادي على أيّ حال سيصبحون ما يريدون وسيفعلون ما يحلو لهم، مهما فعلت؟ عندما كنت طفلة، كانت إحدى “الجارات” ترعاني، والآن اصبح اسمها جليسة أطفال.
ما زلت أتذكّر الكثير من كلماتها. كانت تسمح لي أن أرسم بقدر ما أشاء. كنا نقصد الحديقة العامة ونُطعم طيور الأوز. كلما أتت أمي لتأخذني، كانت المرأة تجعل من المسألة لعبة، كما لو أنّ أمي لم تتركني عند الصباح.
اعتادت أن تقول بحماسة: أنظري من جاء ليصحبك! لو أردت أن أصف هذه التجربة بكلمة لقلت عنها حارّة أو حنونة. بعد سنوات عديدة، وبعد أن أصبحت أماً، بكيت عطفاً وحناناً عندما التقيت بها.
كانت أول من خاط لي وشاحاً أبيض كما اشترت لي وروداً وأنا في الرابعة من عمري. أحمل الكثير من الذكريات الرائعة عنها بحيث أتمنى لكل طفل أن يحظى بجليسة أطفال مثلها.
اعتنت أمي بابنتي حتى عمر الثلاث سنوات، ثم سجّلتها في الحضانة كي تختلط بالآخرين وتصبح اجتماعيّة.. عانينا نحن الثلاثة من هذا الوضع، لاسيما أمي. ووصلنا إذاً إلى ماري.
ماري لم تذهب إلى الحضانة بعد لكنها ستفعل قريباً وهذا ما لا أريد التحدّث فيه.
كانت ماري وكأيّ طفل آخر تتفاعل مع التلفزيون حتى عندما لم يكن عمرها يتجاوز البضعة أشهر. فالأطفال الصغار ينجذبون إلى الصور الملوّنة لكنني سمعت الكثير من الانتقادات.
في الواقع، اعتدت أن أسمع باستمرار نصائح تقضي بألا أدعها تشاهد التلفزيون لأنّ هذا ليس جيّداً لدماغ الأطفال.
كنت أندهش من هذا الكلام إذ لم يخطر لي يوماً أن أفكّر في ما هو مفيد لدماغ طفلتي أو عينيها.
بعدئذ، جاءت مرحلة حيث كانت ماري “تتكرّم” بمشاهدة الرسوم المتحركة، لاسيّما الأغاني المصوّرة للأطفال والمدهشة أيضاً بالنسبة إليّ.
ليس هناك الكثير من الأشخاص في الإطار المرح والملوّن، ولا يهم طالما أنه ظريف ومرح وهادئ مقارنة مع الرسوم المتحركة.
كانت الأفلام التي شاهدتها أنا وابنتي مليئة بالفوضى العامة والصخب والملاحقات والقتال والكدمات.
وبدأت انتبه… إذا أصغيتم قليلاً، فستعرفون كيف توقفونهم من حين إلى آخر.
إن لم يكونوا مطيعين، إن لم يفعلوا كذا أو كذا، فسيُحرمون من الهاتف الخلويّ ومن الألعاب ومن الرسوم المتحركة. بالتالي…
أصبح الهاتف الخلويّ هو جليسة الأطفال في الألفين وعشرين. وهؤلاء الأطفال الصغار وأنا لا أتحدّث هنا عن مراهقين، بل عن أطفال صغار لم يلتحقوا بعد بالمدرسة، أصبحوا يُعرفون باسم جيل اليوتيوب.
ذكرت من قبل أني اعتبر صراخ الأم المتواصل غير طبيعي:
- لا تركض!
- ستكسر ساقك!
- انتبه لسروالك!
- لا تقفز أينما كان فستعرق
- إذا لعبت بالرمال فسأضطر لأن أحممك.
لا يمكن للأطفال أن يكبروا من دون طفولتهم ومن دون أن يقفزوا ويلعبوا.
إذن، كيف تريدون مني أن أصمت؟
أعطوا أولادكم كرات! لا أتذكّر أني رأيت طفلاً يلعب بالكرة منذ وقت طويل. 80% من الأطفال دون الثلاث سنوات يستخدمون يوتيوب، علماً أنّ العديد من الفيديوهات هي في الواقع إعلانات مبطّنة لألعاب، فهذه الفئة هي الفئة المستهدفة.
يتقن الطفل ابن الثلاث سنوات استخدام اليوتيوب، وهو لا يحتاج إلى المعرفة كما لا يعرف أن يقرأ أو يكتب.
أعلن طبيب نفسي ايطالي أن الأولاد دون السادسة من العمر يفهمون العالم انطلاقاً من كلمات ورموز.
وفي حال الاستخدام المفرط للهواتف المحمولة والألواح الذكيّة، سيفكّرون أقل ولن يستخدموا سوى أيديهم لتشغيل أو تغيير شيء ما وتؤدي التكنولوجيا العالية في الواقع إلى حرمانهم من الجزء الأهم في الحياة وهو الطفولة.
ويقول الطبيب النفسي ذاته إنّ الطفل دون الثالثة يجب ألا يستخدم أيّ شاشة رقمية.
وفي هذا الإطار، قرأت في مصادر عدة أنّ الأشياء القديمة تحفّز الدماغ أكثر
عندما أتحدّث عن أشياء قديمة، أعني بها: اللعب، الغناء، المشي، تحضير الحلوى مع الأم، الخ…
يعرف جيل اليوتيوب بشكل عام كيف يستخدم الهواتف المحمولة وكيف يتصفّح الانترنت حتى، ًلكنه لا يفلح في القيام بالأمور العاديّة.
لا يعرف الأولاد كيف يعقدون رباط الحذاء أو كيف يقفلون أزرار السترة. ما من أحد يعلّمهم ذلك. وهذه ليست قاعدة بالتأكيد بل تشير بكل بساطة إلى أنّ الأهل لا يفكّرون عندما يسمحون للطفل بأن يستعمل الهاتف الخلوي لفترة غير محددة. إنه وكما أشرت سابقاً جليسة أطفال ممتازة. لكن عليّ أن أكون صادقة واعترف أنه من المستحيل اليوم أن نبقي الأولاد بعيدين عن التكنولوجيا.
يجب بكل بساطة أن نضبط استخدامها ونحدّ منه.
مسألة مثيرة للاهتمام:
أصبح الأهل يدركون وبشكل متزايد أنّ بعض الأشياء التي تبدو عاديّة وبسيطة في الظاهر هي خطرة في الواقع.
إنّ خطر أن يسيء الطفل فهم شيء ما أو أن يكوّن فكرة خاطئة عن شيء ما، هو خطر حقيقي.
هل يخطر لهم أنّ بعض الرسوم المتحركة تشوّه الواقع بشكل حاد لأنها تعرض حيوانات سعيدة للغاية؟
لعلهم سيُصدمون في مرحلة لاحقة حين يكتشفون أنّ معظم هذه الحيوانات السعيدة على الشاشة، تعيش في الواقع في مزارع صناعيّة أو تقتل بشكل عنيف ليستهلكها الناس.
أخيراً، أظهرت الأبحاث التي أجريت في العديد من البلدان أنّ 11% فقط من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و5 سنوات يعرفون كيف يربطون أحذيتهم. علّموهم أن يعقدوا رباط الحذاء، وأن ينظّفوا أسنانهم وأن يهتموا بنظافتهم الشخصيّة…
إن كان أولادكم يذهبون إلى الحضانة فلا تصحبوهم إلى صالات اللعب بعد الظهر إذا قضوا ما يكفي من الوقت مع أطفال آخرين، فثماني أو تسع ساعات كافية، وخصصوا وقتكم الثمين لهم.
لا بديل عنكم في نموّهم وما من أحد يعوّض دوركم. أن تكوني أماً تواكب العصر وتعيش في زمن التكنولوجيا ليس بالأمر السيء لكن عليك بالاعتدال وضبط الأمور والسيطرة عليها.