Site icon التربية الذكية

لا أحبّ الأطفال

لا أحب الأطفال

adobe.stock

“لا أحب الأطفال”.

أسمع هذه الجملة بين الحين والآخر واعترف بأنها تصدمني اليوم. كيف يمكن ألا نحبّ الأطفال؟ علماً أننا كلنا كنا أطفالاً ذات يوم. يبدو الأمر وكأننا لا نحب جزءاً من ذاتنا… وأنا قلت “اليوم” إذ لم يكن هذا هو الحال على الدوام. حسن، هذا لا يعني أني لم أكن أحب الأطفال بل لم أكن أشعر بالارتياح في حضورهم. كنت أجد أنّ عيوبهم كثيرة: فهم مزعجون ومتقلبو المزاج وغير مطيعين وقذرين ومكلفين… (كل عيوب الكون). باختصار، وجدت الكثير من الأسباب لتبرير عدم حبي لهم. أعلم أنّ كلامي هذا قاسٍ وصعب.

لكنني أحب كثيراً أخواتي وأخوتي، علماً أنّ ثمة فارق في العمر بيننا (فأنا البنت الكبرى). لعل هذا يعود إلى التناقضات في نفوس البشر…

وهذا هو السبب الذي جعلني لا أرغب في أن أُرزق بأطفال، فأنا فعلاً لم أكن أرغب في ذلك. يجب أن يُدفع لي المبالغ الطائلة كي أرضى بأن أنجب طفلاً، هذا إذا ما رضيت.

لا أحب الأطفال لكنني أتعالج

وفي يوم من الأيام، أعدت النظر في قراراتي وسلوكي ونفسي. سيقول البعض إنه النضج وسيعزو البعض الآخر الأمر إلى نداء الساعة البيولوجيّة الداخلية أو أيّ سبب آخر. وهذا ليس بيت القصيد. السؤال هو: ما الذي جعلني أغيّر رأيي؟

الجواب واضح وهو أنا، أنا وحدي. وكما قلت من قبل، أعدت النظر في حالي وقوّمت نفسي.

فكّرت كثيراً. لمَ أرفض إلى هذا الحد أن أُرزق بأطفال؟ بدا لي الأمر غير طبيعي. وبالتالي، قررت أن أطرح على نفسي الأسئلة المناسبة.

لمَ لا أشعر بالارتياح مع الأطفال؟ وأدركت في نهاية الأمر أنّ طفولتي الصعبة تسبب لي مشكلة.

سأشرح كلامي. أعتقد أني كنت خائفة في أعماقي من أن يعيش أطفالي ما عشته أنا فمنعت نفسي من أن أكرر الأمر ذاته… لكن الحل في الواقع لا يكمن في رفض الأمر برمّته جملةً وتفصيلاً.

وضع الإصبع على الجرح

ولا يقتصر الأمر على هذا. وأعتقد أن الكل لاحظ التالي: يتميّز الأطفال بقدرتهم على إخراج “الشياطين” الكامنة في داخلنا. إنهم قادرون على وضع الإصبع على الجرح.

تقول ايزابيل فيليوزا: “إنّ مهنة الأهل صعبة فعلاً لا بل مستحيلة بحسب فرويد لأنها تجعلنا نواجه أنفسنا، وتضعنا أمام حدود قدراتنا، وجروحنا التي لم تلتئم بعد ولأنّ الأولاد يلوموننا حتماً على الكثير من الأشياء إذ أنهم يحتاجون ذلك كي يكبروا وكي يشعروا بأنهم مختلفون عنا وكي ينفصلوا عنا.”

قد نشعر أحياناً بأن الأطفال يختبروننا لا بل يستفزوننا في حين أنهم لا يفعلون ذلك أبداً. في الواقع، إنهم يجرون تجاربهم بكل بساطة. إنهم يتعلّمون كيف يعمل الانسان تماماً كما يفعلون مع الأشياء والآلات. “إذا فعلت هذا، فسأحصل على ردّ الفعل كذا.”

وتضيف ايزابيل فيليوزا: “لا يجد الأهل صعوبة في تحمّل الطفل نفسه بل سلوكه أو الوضع أو تحديداً ما يوقظه هذا الوضع في داخلهم من مشاعر وتوترات.”

وإذا أضفنا إلى ما تقدّم الطاقة التي تتطلبها تربية الطفل فضلاً عن الشعور بعدم الراحة وبأننا فقدنا حريتنا… فمن الطبيعي أن نشعر بالخوف. وهذا كان حالي.

لكن عذري المفضّل هو: “ألا ترى في أيّ عالم نعيش؟ هذه ليست الهدية التي يمكن أن نقدّمها لطفل!” كانت فكرة أن يأتي ابن أحد الأصدقاء برفقة أهله لزيارتنا “تتعبني” وتجعلني أتوتّر.

وفي نهاية الأمر، أصبحت المسألة مزعجة للغاية لأنّ كل معارفي انجبوا ما زاد من شعوري بالضيق.

تساؤلات

ما جعلني أقوم بردّ فعل هو أنّ الآخرين كلهم رُزقوا بأطفال. بدأت أقول لنفسي إني لست “طبيعيّة”. كانت هذه طريقتي في التفكير حينذاك، لاسيما وأني تعرّضت للكثير من الضغوطات من العائلة: “يجب أن تتخذي القرار قريباً” أو حتى “أنت متزوجة منذ وقت طويل فلمَ لا تنجبان أطفالاً؟”

كيف يمكن لهم بصراحة أن يسألونني لما لا أريد انجاب الأطفال وكأنني أسألهم أنا لما يرغبون في الانجاب.

وهذا ما فعلته. سألت الجميع عما يجعلهم يرغبون في انجاب الأطفال. والغريب في الأمر أني وجدت الإجابات كلها غير مرضية، كما لو أنني أنتظر وحيّاً ما أو اكتشافاً ما…

لكن دوافع هؤلاء الأشخاص هي التي جعلتني أبدّل رأيي فضلاً عن زوجي الذي يريد أطفالاً (“فريق كرة قدم” على حدّ تعبيره… لكن الغريب أنه لم يعد يرغب بالمزيد من الأطفال بعد ولادة ابنتنا…).

إنها فكرة نقل شيء ما أو توريثه.

لم أفهم هذه الفكرة في بادئ الأمر. نقل ماذا؟ ولماذا؟ ما المميّز لديّ لأرغب في نقله إلى طفل؟وراحت البذرة تنبت رويداً رويداً.

تحرر

وتبخّرت كل “حججي” لئلا أنجب أطفالاً الواحدة تلو الأخرى. كان المكان الذي أعيش فيه مناسباً تماماً لقدوم طفل. صحيح أنّ العالم من حولنا فاسد لكن يعود لي أنا أن أبذل ما في وسعي كي أمنح هذا الطفل كل ما يلزم ليصبح هذا العالم أفضل أو على الأقل كي يعيشه الطفل بشكل أفضل مني.

يتطلّب هذا الكثير من الطاقة لكن ثمة الكثير من الأمور التي تعوّض هذه “الخسارة” التي لم تعد كذلك. انتهت الحريّة، لا أبداً فالطفل ليس عبئاً ويمكن التوصّل إلى تسويات وحلول وسط.

وبدأت أتقرّب من الأطفال شيئاً فشيئاً من دون أن أتنبّه لذلك. وبقيت أشعر بعدم الراحة لكن المسألة لم تعد مزعجة.

وبدأت أجدهم ظرفاء…

ومن ثم أدركت مشكلتي الحقيقيّة: الخوف من الالتزام. كان لديّ فكرة واضحة ومحددة عما أريده وما لا أريده لطفلي إلا أنّ وفائي بهذا الالتزام اتجاه نفسي وقناعاتي بدا لي صعباً للغاية. لم يكن الوقت مناسباً لي كي ألتزم بتربية طفل.

طفل في الأفق

وسقطت الحواجز كلها في غضون أشهر بحيث أني رُزقت بابنتي وأنا في الثانية والثلاثين من عمري. وكم انتظرناها بفارغ الصبر! وتحقق التحرر الكامل.

أصبحت الآن أعشق الأطفال كلهم، وأقضي وقتي في مشاهدة فيديوهات الأطفال (لم أكن أتخيّل من قبل أن أفعل هذا). وأنا متحمّسة للتعلّم وشغوفة بكل ما يتعلّق بالأطفال.

إنه انقلاب حقيقي لا بل اكتشاف. لم أكن يوماً ملتزمة بهذا القدر، حتى أنّ التزامي يفوق ما تمنيّته أو رغبت فيه. وهذا رائع ويثير لديّ شعوراً بالرضا.

بالتالي، صرت اليوم عندما أسمع أحدهم يقول “أنا لا أحب الأطفال”، أقول في سري إنّ ثمة سبب لذلك… وإنّ هذا السبب قد لا يكون وجيهاً كما يظن صاحبه. لا أعلم.

على أيّ حال، هذه المقولة التي تصدمني اليوم (نعم، أصبحت اليوم تصدمني) تذكّرني بأنه من غير المجدي أبداً أن نطلق الأحكام لا سيما وأنّ الكثير من النساء يشعرن بأنهن “غير طبيعيات” لأنهن لا يحببن الأطفال. هذا ليس بالأمر السهل بالنسبة إليهن وأنا الأعلم بالأمر فقد عشت التجربة. وجعلني الآخرون أشعر بالذنب.

نحن لا نعرف أبداً الجراح التي يعاني منها الآخرون، والعذابات التي عاشوها والطريقة التي يواجهون بها الأمور. بالتالي، لا يمكن لنا أن نطلق الأحكام عليهم.

وتذكّروا بشكل خاص أنّ كل فرد منا يمكن أن يتغيّر ولا تجزموا بأنكم لن تفعلوا شيئاً ما أبداً.

Exit mobile version