الطفل العاقل: “كم هو عاقل!”، ” كان عاقلاً اليوم”…
أعلم جيداً أنّ هذه العبارات تُقال دائماً عن حسن النيّة، وأنها من المفترض أن تكون مجاملات تهدف إلى إسعادي، وحتى إسعاد إبني… لكنني لا أحبها، بل أعتقد أنها تزعجني أيضاً. فأنا لا أريد هذا لطفلي!
الطفل العاقل جداً هو طفل لا يُحدث أي ضجة أو صوت، لا يرتكب أخطاء، لا يتحرك، يقوم دائماً بما يُطلب منه، ينام دائماً طوال الليل من دون أن يطالب بوجود والديه… طفل يبقى صامتاً في كافة الظروف. وهنا أريد أن أقول: إذا كان هذا الطفل الذي نتمناه، فلِمَ لا نشتري سمكة ذهبية أو نبتة خضراء ونربيها؟
الطفل الذي يركض، يقفز، يصرخ تعبيراً عن فرحه أو عن ألمه وحزنه، يعبر عن عدم رضاه أو لا يوافقنا الرأي، يعيش! هذا الطفل ليس طفلاً “عاقلاً”، وهذا أفضل بالنسبة إليّ! إنّه لمن المرعب حتى أن يشعر المرء بالسعادة حين يبقى الأطفال دائماً في زاويتهم الخاصة من دون التعبير عن أي شيء: “كم هذا رائع، هذا الطفل لا يصدر أي ضجة حتى أننا لا نشعر بوجوده!”، كم من مرة سمعتُ هذه الجملة عن طفلٍ رضيع أو طفلٍ صغير؟ هل سمعنا أحداً يقول هذه العبارات عن شخص بالغ؟ إنّ الشخص الراشد الذي لا يعبر عن رأيه ولا يصدر أي صوت ولا يظهر أي مشاعر يثير القلق بشكل عام. كيف يمكن أن نعتبر انعدام شخصيّة الطفل وعدم تعبيره عن وجوده أمراً جيداً له؟ في ما عدا الجانب “العملي” بالنسبة للراشدين الذين يحيطون به أو يعتنون به، أنا لا أرى أيّ فائدة من ذلك…
تحذر الدكتورة جينين من هؤلاء “الأطفال العاقلين” الذين لا يطلبون شيئاً إطلاقاً. إليكم ما تقوله:
“من السهل جداً أن يكون طفلك عاقلاً. يكفي ألا تصغي إليه منذ صغره، ألا تستمعي إليه وألا تستجيبي لطلباته. يدرك الطفل سريعاً أن لا فائدة من الطلب أو المناداة، إذ لن يستجيب أحد لندائه ويأتي. يكبت عواطفه، وينطفئ جزءً منه. لن يتمكن من تحديد هويته أو احتياجاته ويتوقف عن طلب أي شيء. عندما يكبر هذا الطفل، سيجد أهله صعوبة في التعرّف إلى هذا الولد الذي قلما يعبّر عن ذاته وعن حاجاته.
من ناحية أخرى، حين يصغي الأهل إلى طفلهم، ويسمحون له بأن يعبّر عن مشاعره وحاجاته، يصبح الطفل “أكثر صعوبة” في بادئ الأمر لأنه سيعبر عن مشاعره: مخاوفه، أحزانه، قلقه، غضبه. ولن يكبتها. لكنه سيتمكن أيضاً من التعبير عن سعادته في الحياة وعن انبهاره وفرحه وفضوله. سيكون مليئاً بالحياة ويملاً المنزل بحضوره السعيد. مع مرور السنوات، سيجد الأهل سهولة وسعادة أكبر في تربية هذا الطفل السعيد الراضي والواثق من نفسه الذي يعبر عن نفسه وعن احتياجاته ورغباته، طفل يمكن إقامة حوار معه حين يواجه تساؤلات أو صعوبات.”
أن يكون الطفل “عاقلاً” لا يعني أنه بخير. وهذا الأمر لا ندركه بما فيه الكفاية! انتبهي جيداً، أنا لم أقصد بكلامي هذا أن هدوء طفلكِ يعود إلى أنكِ لم تصغي إليه كما يجب عند الحاجة. فبعض الأطفال هم بطبيعتهم أكثر هدوءً من غيرهم، كما أنّ الطباع تلعب دورها بالطبع… فالأطفال الذين يحظون برعاية جيدة من أمهاتهم يميلون لأن يكونوا أكثر هدوءً بشكل عام، لأنهم يتمتعون بأمان عاطفي قوي… لكن أن نترك طفلنا يبكي، أو أن نحبسه في غرفته أثناء نوباته العاطفية أو أن نوبّخه ونأمره بالتزام الصمت، ومن ثم نتباهى لاحقاً بأنه “عاقل”، أمر غير منطقي على الإطلاق. هذا السلوك ليس عاقلاً بأيّ شكل من الأشكال، بل هو مجرد كبت للمشاعر السلبية التي لا يصغي إليها أحد (وهذا عامل مدمر لدماغ صغير قيد البناء).