متى يكون الأهل والمراهق من كوكبين مختلفين؟

0
فكروا بالاختلافات بين الوالدين والمراهق وفق نوعين: عابرة ودائمة.

يمكن للنوع العابر أن يتطور بشكل بارز ومتزايد بما أن المراهق يحاول بطرق عدة تمييز نفسه عن الطفل الذي كان عليه، وعن الأهل، وكيف يريدونه أن يكون، وذلك كله بهدف الإصرار على المزيد من الحياة الشخصية. على سبيل المثال، قد يختبر المراهق الحياة من خلال اندماج ثقافي غريب وأسلوب ملابس مثير وميل لسماع الموسيقى على صوت عالٍ بما يتناقض مع الأهل أو، قد يحدث الاختلاف بالمعارضة من أجل إظهار استقلال متمرّد عندما يتحدى المراهق طلب الأهل انجاز أمر بيتي من خلال بعثرة أغراض المنزل وترتيب غرفة تعمها الفوضى. عادةً ما تكون هذه الاختلافات من النوع التجريبي، يمرّ بها المراهق بينما ينضج.

ثم، لدينا اختلافات من النوع الدائم أكثر. على سبيل المثال، عندما يختلف الوالدان والمراهق من الناحية النفسية – من حيث الصفات الفطرية (طاقة كبيرة مثلاً)، الشخصيات (مسيطر مثلاً)، المزاج (حساس مثلاً)، الأفضليات (المجازفة مثلاً)، الوظائف الجسديّة (ميل جنسي مثلاً). هذه هي الاختلافات الثابتة التي يتوجب على العلاقة إيجاد طريقة لاحتوائها بشكل بناء.

Premium Freepik License

بين أي شخصين، وحتى في العائلة نفسها، يبدو أن الاختلاف الإنساني أمر لا بد منه. إن كان قولاً أو فعلاً، فإن عبارة “أنت مختلف جداً عني ويجب أن تصبح مثلي” تهمل علامة تقبّل الآخر التي تقول ” نحن مختلفين عن بعضنا البعض وعلينا أن نتعلم تقدير الاختلاف الإنساني بيننا والعمل به”. قد يولّد الأهل غير المتسامحين مراهقين غير متسامحين بالمقابل ونقداً متبادل وجرحاً للمشاعر. “أنا لست أنت، لا أريد أن أشبهك، ولن أشبهك أبداً”.

لنعتبر علاقة بين الأم ومراهق حيث يكون المراهق بطبيعته بطيئاً، ساكناً، متأنياً، متقوقعاً، متحفّظاً، حذِراً، هادئاً، جدياً، رصيناً، وعميقاً بينما يكون الراشد بطبيعته سريعاً، يتحدث بصوت عالٍ، عفوياً، اجتماعياً، يعبّر عن مشاعره، صريحاً، سريع الانفعال، مرحاً، عاطفياً وغير متحفظ. قد تتوقع بعض الشكاوى تجاه الآخر بالإرتكاز على شعور عدم التسامح الذي يشعر به كل شخص.

بحسب الأم، “يعيش ابنها في عالمه الخاص، يحب تمضية الوقت بمفرده، هو ساكن جداً لصالحه أو على الأقل لصالحي، لا يخرج مع العائلة ولا ينضم إلى النشاطات العائلية إلا إذا طلبنا منه ذلك، له أصدقاء ولكن لا يسعى لرؤيتهم، لا يتمتع بروح مرحة جداً، قد يصعب عليه التحرك وحتى يصعب عليه أكثر البدء بالكلام، وعندما يلقي محاضرات ببطء، يستغرق وقتاً كبيراً للتفكير قبل أن يقرر في ما يقوله، يتطلب الكثير من الصبر للاستماع إليه”.

بحسب الإبن، “تحب أمه الكلام لمجرد الكلام، ليس فقط مع العائلة والأصدقاء إنما مع الغرباء أيضاً، حتى عندما يكون الأمر محرجاً، تحب أن تكون مضحكة وإلقاء الدعابات، تحب إضحاك الناس ومن بينهم أنا، مستعدة ومستعجلة دائماً، تريد أن يكون الجميع مشغولاً أيضاً، تحضر مشاريع عائلية من دون موافقتنا، تتحرك وتتكلم بسرعة وتقول كل ما تشعر به، وتحب الرفقة دائماً، تريدني أن أتحدث ولكنها تستعجلني كلما أخاطبها إذ أنها تغضب عندما استغرق وقتاً”.

عندما وصفت هذا الثنائي الغريب لصديقة لي، قالت إن الأمر يبدو جزئياً بالنسبة إليها مثل مباراة بين الانطواء والانفتاح، وقد يشكل تحدياً لهما لينسجما إلّا إن تعلم كل منهما تقدير ما لدى الآخر لتقديمه. وهذا الجزء الأخير من النصيحة أدهشني على صحته.

كل شخص هو مزيج مما منحته إياه الطبيعة الإنسانية وأكسبته إياه التنشئة الإنسانية. وعلى الرغم من أننا لا نتحكم بما هو فطري، لدينا الكثير من الاحتمالات حول ما نختاره في طبيعتنا الإنسانية لتنشئتها وتطويرها، وكيفية قيامنا بذلك. يكمن التحدي في قبول ما يقدم لنا ثم التصرف به  بأفضل ما نستطيع. أعتقد أن الأمر  يعتمد على الأهل لتوجيه الطريق ولتمجيد الاختلافات الجوهرية في العائلة وعدم محاولة تغيير أي شخص ليصبح مثلهما.

freepik.com
إليكم بعض الخطوات الممكنة يستطيع الآباء اعتمادها عندما يهدد الاختلاف الإنساني الطبيعي في ولدهم المراهق بتعطيل العلاقة.
  • أولاً، علينا أن نفهم أن الخصائص النفسية كلها، ربما في هذه الحالة التي تتراوح بين الانطوائية والانفتاح، ليست مسألة اختيار أمر من اثنين، ولكن لها معنى واحد لا ثاني له. لا، لديكم مزيجاً من الأمرين، الأمر ونقيضه، ولكن يبدو أحدهما مسيطراً. علينا أن نفهم هذا، يستطيع الأهل تأكيد القدرات التي يقدمها الجانب الانطوائي من ولدهم، مثل تقدير إمكانية التسلّي منفرداً. يمكنهما أيضاً تشجيعه على التعبير عن جانبه الاجتماعي، ربما بإطالة الوقت الذي يمضيه مع الأصدقاء الذين يتقاسم معم اهتمامات مشتركة.
  • ثانياً، بإمكان الأم الترحيب بالاختلاف الطبيعي الإنساني بينها وبين ابنها إذ في العلاقات يمكننا أن نتعلم بشكل أكبر من شخصين متناقضين أكثر مما  نتعلمه من شخصين متشابهين جداً، نتعلم من التناقض أكثر من القواسم المشتركة. بإمكان الأم أن تقول ” يمكنني أن أتعلم منك تطوير جانبي الفطري أكثر وربما تستطيع أن تتعلم مني كيف تطور جانبك المنفتح أكثر. لأنه من المفيد التمتع بالأمرين، لدينا الكثير مما نقدمه لبعضنا البعض”.
  • ثالثاً، تستطيع الأم ربط الاختلاف بفائدة ما من خلال الطلب: “هل يمكنك إخباري المزيد عن كيفية استمتاعك بقضاء هذا الوقت الكبير كله وحدك، وبم تفكر؟ تجيد الاستفادة من الوقت منفرداً أكثر مني، وأود أن أتعلم منك”.
  • رابعاً، الشيء الوحيد الممنوع هو ألا ينتقد الوالدان أبداً الخاصية الانطوائية أو محاولة تغييرها، إنما يحترمانها يدعانها كما هي. لا يعارضان سوى التصرفات التي يمكن أن تنتج عن الخاصية: أعرف أنك تود قضاء معظم وقت الإجازة وحدك، ولكن ستسر الزيارات العائلية برفقتك جداً، لذا دعنا نناقش ما الذي يمكننا فعله”.

من الأفضل استخدام الاختلاف الطبيعي الإنساني كجسر لفهم الآخر وعدم جعله حاجزاً في العلاقة. ما وجدته لا ينجح هو عندما يكون الآباء عاجزين عن تقبل طبيعة ولدهم المراهق الإنسانية أو لا يريدون تقبلها، ما يؤدي إلى تصريح من هذا النوع. “يهمل والديّ جزءاً كبيراً مني. يصبان كامل تركيزهما على قدرات أولادهما التعليمية، يجعلونهم يحسنون في دراساتهم ويعملون بكد ليتقدموا، وجانبي الإبداعي ذلك، الجانب الذي كنت أحبّه، مرا عليه مرور الكرام.  يبلي أخي وأختي الأكبر سناً مني جيداً في المدرسة، ولكنني كنت أنا الطفل الغريب في العائلة الذي يقضي نهاره يحلم ويرسم أفكاراً ويتلاعب بالأشياء ويبتكر، ما يشكل عائقاً أمام تحصيل علامات عالية. لذا، بذل والدي جهدهما لجعلي أشبههما، وكنت عنيداً جداً كمراهق لعدم السماح لهما بذلك.

ومع كل الكفاح والنزاع، تخرجت بصعوبة المدرسة الثانوية، وعندها كنا نادراً ما نتحدث. كانا يعاملاني كأنني فاشل ، ويلومان نفسيهما. لذا ناضلت وحدي، إنما كان الأمر شاقاً في البداية. ولكن في العالم المليء بالتكنولوجيا المتطورة، عرفت الكثيرين من العصاميين المنحرفين مثلي عن مسار العائلة. عندها، يئس أهلي أخيراً من محاولة تغييري، وأصبحت الأمور أفضل بيننا. ولكنني لا زلت أحد الأولاد الذين لا يُفهمون كثيراً”.

أجل، قد يكون هذا الإصرار على ما أنت عليه مثيراً للإعجاب. يذكرني هذا بأمي التي تطلّب منها تعليمها في الطفولة العمل وهي تثني يدها اليسرى خلف ظهرها إذ في تلك الأيام المستنيرة ثقافياً كان يعتبر استخدام اليد اليمنى هو الأصح واليسرى خاطئاً عملياً.

وهكذا، على مدى تلك الصفوف الابتدائية، عندما حرمت من استعمال يدها اليسرى في الصف، تعلمت القيام بعدة أمور بيدها اليمنى مثل الكتابة. ثم بلغت مرحلة المراهقة، وكما أخبرتني، أمسكت في يوم من الأيام مضرب التنس وضربت الطابة نحو المنزل. “كان ذلك عندما بدأت الأمور تبدو منطقية بالنسبة إلي”، هكذا وصفت لي هذا الإدراك. تم التعرف على موهبة وإشعال شغف. لأن والديها لم يكونا يعتبران الرياضة مهمة جداً لفتاة، تركاها تلعب باليد اليسرى إن أصرت على ذلك، وهو ما فعلته لتحقق نتيجة ما، ووصل بها الأمر إلى أن لعبت مرتين في مباراة في “ويمبليدون”، وأطلق عليها كاتب رياضي محلي اسم “قبضة بوسطن اليسرى”. لذا بدأت يسراوية، وبقيت يسراوية بشكل جزئي على الأقل.

قد يصعب على الأهل اتباع نصيحة “ديباك شوبرا” دائماً (كتابه “Ageless Body, Timeless Mind”) وتجنّب الاستبداد ومحاولة إصلاح أي “تغيير” ما لا يشبههم وما يعتبرونه ناقصاً أو خاطئاً، وعدم الاعتراف بما هو مختلف وصحيح بالنسبة إلى الطفل أو تقويته. لطالما استمتعت بوصفات “شوبرا” لدعم قدرات الطفل: “إن كان طفل ما يعاني من ضعف في مادة الرياضيات، ولكنه فناناً بطبيعته، لا تحضروا له مدرس رياضيّات. أحضروا له لوحة رسم وبعض أقلام التلوين. دعوا الطفل يكون ما خلق من أجله. لا يحق لكم التدخل بذلك”.

لعل أمامهم بعض المجال للتوصل إلى تسوية هنا. مساعدة الطفل، الذي يبدو مختلفاً جداً عما هم عليه وما يريدونه، على اكتساب مهارات أساسية، ولكن لا تطيلوا التفكير في نقاط الضعف. بالمقابل، ركزوا على تعزيز نقاط قوة المراهق الفطرية وتشجيع شغفه. إنه تحدٍّ قاسٍ للآباء لإنجازه، إنما بوسعهم إنجازه.

اترك رد