الغضب، هذا الشعور الذي يسيطر على أعماقنا فنشعر أننا نريد أن نصرخ في وجه الكون صرخةً مدوية يهز صداها أرجاء قلوب الناس القاسية المتبلّدة. ما لهذا الكون أصبح مظلماً إلى هذا الحد؟ أين انطفأ النور من قلوبهم؟ يكاد الحزن داخلي يفيض، يكاد الألم يهَيمن على كياني، يكاد اليأس يتملّك أفكاري. لقد كنتُ أظن أسوأ كابوسٍ رأيته مرحلة نقل الطفل إلى حاضنة بعد الولادة إلى أن رأيته هذا المشهد المخيف.. طفلٌ رضيعٌ في سلة قمامة!
طفلٌ رمته أمه في سلة قمامة!
رَمَت طفلها؟ يا لجبروت هؤلاء الناس، أتراهم شياطين؟ أتراهم لا يشعرون؟ أتراهم يبررون لأنفسهم؟ الظروف ! اللعنة على ظروفٍ تجعلني أترك طفلي مرمياً في سلة قمامة. إنه هديةٌ أرسلها لنا الله، أهكذا نتعامل مع هدايا الله؟
تكاد النظرة في عينيه تقتلني، ينظر حوله باحثاً عمّن عاش في رحمها 9 شهور، عن موطنه، عن مصدر الأمان. كيف لمصدر الأمان أن يتحوّل إلى قاتل. يبحث فلا يجد سوى غرباء، رحمك الله يا صغيري، قلوب الغرباء أحنّ عليك من قلب أمك.
وطفلٌ في حاضنة يموت قلب أمه ألف مرة كي تراه!
ما زلتُ أذكر حين دخلت ابنتي إلى غرفة العناية بعد الولادة مباشرةً، وكانوا يسمحون لي بزيارتها لنصف ساعة يومياً. أنا أمها التي كنتُ أنتظر أن أحملها بين ضلوعي بفارغ الصبر، كنتُ مجبرةً على تركها بين يدي غرباء ورؤيتها نصف ساعة فقط في اليوم. كنتُ أموت، كنتُ أنازع حقاً. كنتُ أغمر مخدتي خلسةً وأضعها على بطني (المكان الذي كانت تحيا فيه لشهور ونتحدث معاً ونتنفس معاً ونحيا معاً)، كنتُ أضغط عليه بكل ما أمتلك من قوة وأبكي.
لم أشعر بالألم الجسدي الذي تعاني منه المرأة بعد الولادة، لم أشعر بشيء، تخدّر جسدي بالكامل. لأن الألم الذي كان يخترق روحي حينها كان أعظم بكثير. كنتُ أعلم أنها تبحث عني ولا تجدني، كنتُ أعلم أنني خذلتها دون أن أقصد، كنتُ أعلم أنها لا تشعر بالأمان، كنتُ أعلم أنها خائفة حزينة وحيدة تشعر بالغربة واليتم. من الذي سيشرح لملاكي الصغير أنني على قيد الحياة لكنني لا أستطيع أن أخرجها من المكان الذي وضعوها فيه كي لا تموت؟ مَن الذي سيشرح لها أنهم لا يسمحون لي بالبقاء بالقرب منها على الأقل كي أجعلها تسمع صوتي وتعلم أنني هنا لأجلها؟
كانوا يلاحقونني كي يواسونني، وكنتُ أهرب من عينيهم وأنتهز كل فرصةً تتاح لي كي أبكي. كانت كل زاوية في المنزل حزينة، وكل زاوية في قلبي كل لحظةٍ تبكي.
كنتُ أختنق كل يوم، إلى أن أتى اليوم وحملتها بين يدي خارج سجنها الزجاجي، أنا وهي لوحدنا بعيداً عن نظرات الجميع، وتنفّستُها. كنتُ أفقد روحي، وعادت روحي إلى ضلوعي حين غمرتُها.
ميّزني الله حين جعلني أنتظر
أظنني مررتُ بأكثر لحظات حياتي بعداً عن الله، لقد لمته كثيراً، سألته لماذا؟ لم يجبني حينها. أو أنني لم أصغي.. إنها مشكلتي فعلاً، حين يتملكني الغضب.. لا أصغي.
كان الله يريد أن يريني منذ البداية أن رحلتي طويلة وشاقة، وأن أجمل الأمور هي التي تأتي بعد حين. وأن الانتظار يجعل الأمور بعد اللقاء أجمل وأرقى وأكثر روعةً. فهمتُ ذلك لاحقاً.. بعد أن انتظرتُها سنتين ونصف كي تخطو أول خطوة، و4 سنوات كي تنطق أول كلمة.. وكانت فرحتي مضاعفة لا بل توازي مئات الأضعاف. وما زلتُ أنتظر الكثير والكثير من الفرح المضاعف في حياتي.
ميّزني الله حين رزقني بها، ميّزني الله حين جعلني أنتظر. وميّزني الله حين جعلني أتذكّره في كل حدثٍ جديدٍ في حياتي وأشكره بدل المرة ألف مرة. ميّزني الله حين اختارني أماً لطفلة مصابة بالتأخر العقلي واضطراب التوحد.
إذا أعجبكم مقال أسوأ كوابيس الأمومة: نقل الطفل إلى حاضنة من موقع التربية الذكية بعد الولادة لا تترددوا في نشره.
سماح خليفة