كلما شعرت بالغضب بسبب انتقادات الناس لابنتي وأسئلتهم السطحية الغريبة، أتذكّر هذا الموقف.
نزلت ابنتاي كي تلعبا مع أطفال جيراننا في موقف البناية (برفقتي طبعاً)، وبدأ الأطفال يرحبون بهما ويسألانهما عن إسميهما وعمريهما. كنتُ مستعدةً جداً لهذا الموقف. أجابت ابنتي التي تبلغ أربع سنوات من العمر عن إسمها وسنها، فيما وقفت طفلتي الملاك التي تبلغ ست سنوات صامتةً تنظر إلى الأطفال وتبتسم. فقالت إحدى الفتيات الصغيرات: “اتركوها يبدو أنها لا تريد اللعب معنا، أظن أنها لا تحبنا”.
فابتسمتُ لها بهدوء وطلبتُ منهم جميعاً التجمع حولي. سأعرّفكم على يارا، يارا طفلة تحب أن تلعب كثيراً وتحب الأطفال كثيراً، لكنها لا تستطيع أن تخبركم بذلك لأنها لم تتعلم الكلام بعد (طبعاً لن أخبرهم بأنها تعاني من اضطراب طيف التوحد. لن يفهم أطفالٌ في سنهم هذا الأمر).
ثم أكملتُ قائلةً، يارا تعبّر بطريقة مختلفة. أنظروا مثلاً هي الآن تبتسم لأنها سعيدة لأنها معكم، وهذا يعني أنها أحبتكم.. فبدأو يبتسمون لها ويقتربون منها. ثم أخبرتهم أن يارا ترد فقط إن كانت الجملة واضحة ومختصرة جداً، سأريكم كيف. طلبتُ من إحدى الفتيات الإقتراب وكانت تبلغ حوالي 9 سنوات. قلتُ لها أولاً يجب أن تنحني قليلاً كي ترى يارا وجهكِ، ثم يجب أن تقولي الكلمات ببطء ووضوح “ما اسمكِ”. فانحنت ونظرت إليها وسألتها، فأجابت يارا وهي تنظر إليها بعينيها البريئتين وتبتسم “أنا يارا”. فبدأوا جميعاً يصفقون لها ويهتفون “برافو يارا”. وبدأت صغيرتي تقفز من شدة سعادتها.
بدأوا حينها يتنافسون من سيساعد يارا كي تتكلم، ومَن سيلعب معها أكثر. ويرمون لها الطابة ويصفقون كأنهم أكبر منها بعشرات السنين. أدركوا أن يارا تحتاج إلى بعض المساعدة فقط، كي تصبح واحدةً منهم..
تمنّيتُ حينها لو أن قلوب كل الناس كقلوب الأطفال.
كنتُ في الماضي حين أواجه مواقف مماثلة، أنفعل وآخذ ابنتي وأنسحب وأبدأ بالبكاء. استنتجتُ لاحقاً أن الانسحاب من سمات الضعفاء. وأنه لا يحق لأم الطفل المصاب باضطراب التوحد أن تكون ضعيفة. لا بل من واجبها أن تكون أقوى من كل شيء، لأنه يستمد منها القوة والأمان. كنتُ حينها ألوم الأطفال الذين يسخرون من ابنتي، وألوم الأهل أنفسهم على جهلهم باضطراب التوحد.
اكتشفتُ أن الأمر كله يحتاج إلى بعض التوضيح، والمزيد المزيد من التوعية حول أنواع الاضطرابات التي تنتشر بكثرة، وأهمية تقبل الاختلاف. فكل ما في الأمر حقاً هو أن بعض الناس يتقبلون الاختلاف بطرق مختلفة، منهم مَن يخاف ومنهم مَن يبتعد ومنهم مَن يقترب ومنهم مَن يسخر ويتنمر. تماماً كما أن ابنتي تعبر بطريقة مختلفة.
كنتُ أتمنى أن أرحل مع ابنتي إلى كوكبٍ منعزل لا بشر فيه، كي أحميها من نظرات الناس وكلماتهم وأحكامهم. أما اليوم، فحلمي أن أغير هذا الكون بطريقة تتلاءم مع احتياجات ابنتي.. وسيأتي اليوم الذي أجد فيه لملاكي ركن أحلامها المناسب رغم كل التحديات والصعوبات.
سماح خليفة