بين عاطفة الأمومة والمنطق.. تقف الأم حائرةً عاجزةً عن التصرف في الكثير من المواقف يومياً. فمتى يجب أن تكون العاطفة هي المسيطرة؟ ومتى يجب أن تكف الأم عن الرضوخ لعاطفتها كي لا تدمّر طفلها دون أن تعي تداعيات تصرفاتها؟ هذا ما سأحدثكم عنه من خلال تجربتي عبر هذا المقال.
أعترف أنني أدلل أطفالي كثيراً وأناقشهم دائماً ولا ألقي الأوامر دون تفسير سببها ولا أضع قواعد في المنزل دون شرح أهدافها. إنه امرٌ متعبٌ جداً. لكن غالباً ما يأتي إيجابية. أشعر بفخرٍ شديد حين أرى أطفالي ينافشون ويتحدثون مع الآخرين بكل ثقة ووعي، ويطلقون العنان لمخيلاتهم الصغيرة وأفكارهم الطفولية اللطيفة. هدفي هو أن أربي أطفالاً سليمين نفسياً واجتماعياً يستطيعون حل مشاكلهم بمفردهم ولا يخافون من خوض التجارب والتعبير عن رأيهم بحرية.
تم انتقادي كثيراً على طريقة تربيتي لأطفالي. لكنني لم أكن أكترث لتنفيذ الأوامر وفرض سلطتي بقدر ما كان يهمني أن أتأكد من أنهم فهموا الهدف منها. على عكس معظم الأهل.
ذات يوم شعرتُ أن ابنتي، التي تعاني من اضطراب طيف التوحد، بدأت تعارضني دون سبب منطقي. لا بد من أنها بدأت تكتشف قدرتها على الرفض، وتحاول فرض شخصيتها وإثبات ذاتها. لم أكن أريد أن أقمعها بطريقة قاسية. لكنني تعبت.
إلى أن أتى موعد جلسة العلاج السلوكي.. وكانت ابنتي تحب معلمتها هذه جداً، لا بل تعشقها.. إلا أنها بدأت تعاند في الدخول وتنفيذ التعليمات والجلوس على الكرسي وتنفيذ النشاط. طلبت مني المعلمة أن أتركهما بمفردهما قليلاً. بعد أقل من 5 دقائق أرسلت إليّ مقاطع فيديو لابنتي وهي تجلس على الكرسي لفترة طويلة دون أن تنهض ولو للحظة وتنفذ 3 نشاطات متتالية دون أن تنشغل بأي شيء آخر سوى الهدف المحدد للنشاط. ذُهلت فعلاً.
حين خرجت سألتُها عما قامت به. أجابت بمنتهى البساطة: “يارا تبحث عن الاهتمام. توقفتُ عن الالتفات إليها، جعلتُها تعلم أنني غاضبة لأنها لا تتجاوب معي. وها هي الآن تنفذ كل ما أريد..”
ثم أخبرتني بالمراحل التي اتبعتها بالتفصيل:
جعلتُها تجلس دقيقتين على “كرسي التفكير” كإنذار أول. ثم عددتُ إلى 10 ونهضت. لكنها استمرت في الركض في الغرفة وعدم الإصغاء إليّ.
جعلتُها تجلس مرة أخرى لفترة أطول، كإنذارْ ثانٍ… واستمرت في المعاندة.
فاتخذتُ الخطوة الأخيرة وهي “التوقف عن إعطائها الاهتمام“. أخبرتها أنني أشعر بالحزن والغضب لأنها لم تتجاوب ولم تجلس ولم تنفذ النشاط. أطفأتُ الموسيقى وادرتُ وجهي إلى الناحية الثانية. وتوقفتُ عن التواصل معها كلياً. بعد بضع دقائق، أتت وأمسكت يدي كي ألعب معها. لم أتجاوب. بعدها فترة قصيرة جلست بمفردها على الكرسي وبدأت بتركيب المكعبات بمفردها. لم ألتفت أيضاً. فبدأت يارا تصفق لنفسها وتقول “برافو يارا” كي تجعلني أشجعها كالمعتاد وأعطيها اهتماماً وانتباهاً ودعماً من جديد. أيضاً لم أتجاوب إلى أن نفذت كل النشاطات فغمرتها وقبلتها وأخبرتها أنني سعيدة لأنها كانت طفلة مهذبة.
فسألتها بحيرة.. تقصدين أن الانفعال نوع من الاهتمام؟
أجابت: طبعاً، هي تحاول أن تحصل على انتباهنا سواء الإيجابي أو السلبي، فحتى الغضب والصراخ نوع من الاهتمام. وما إن يحصل عليه الطفل حتى يكرر سلوكه السيء مجدداً كأننا بهذه الطريقة نشجعه على تكراره دون أن نعي ذلك.
ثم سألتُها سؤالاً يراود تفكير أي أم في مكاني… “ألن يؤثر تصرفي بهذه الطريقة على مشاعرها وعلى علاقتي بها؟ فقد بذلتُ مجهوداً كبيراً كي تبدأ بالتواصل معي، أخاف أن أخسر بطريقةٍ كهذه كل شيء”.
فأجابت مبتسمةً: “طبعاً لا، لا تقلقي.. لن تتوقف ابنتكِ عن حبكِ لمجرد أنكِ تعلمينها كيف يجب أن تتصرف. ابنتكِ ذكية جداً، وتعرف نقطة ضعفكِ جيداً وتحاول التحكم بها. بل هي أفضل طريقة كي تعلميها السلوك السيء من الجيد دون صراخ أو انفعال أو تعنيف”.
في اليوم التالي كانت ابنتي تهرب مني رافضة ارتداء ملابسها. غالباً ما كنتُ في هذه الحالة إما أغضب وأبدأ بالصراخ أو أركض خلفها في المنزل كله… قررتُ أن أحاول تنفيذ نصيحة معلمة العلاج السلوكي. نظرت إليها في عينيها وقلتُ لها “ماما حزينة، يارا لا ترتدي ملابسها”. ذهبت واستمرت بالركض. لم ألتفت لها.. بدأت تقول “ماما” وتشدني من يدي.
ضغطتُ على مشاعري وقلبي يتشوق إلى غمرها، واستمريتُ بعدم الالتفات. أمسكت وجهي بيديها وأدارته نحوها وقالت ببراءتها اللامتناهية “ماما happy” تقصد أنه عليّ أن أكون سعيدة. أيضاً لم أرد. خلال دقيقة وجدتها تقف بالقرب مني وتشدني من يدي وقد أحضرت ملابسها كي ألبسها، ثم قالت لي مجدداً “ماما happy”. فغمرتها وقبلتها كثيراً.
هي خطوة صعبة على أي أم، وخاصة أم طفل توحد كانت تحلم أن تقول ابنتها حرفين متتاليين. لكنني استطعتُ التحكم بعواطفي، وكانت النتيجة رائعة. أحياناً يكون الخيار المنطقي هو الخيار الأسلم، والعاطفة المفرطة خيار مدمر لنا ولأطفالنا.
ما ذُكِرَ في المقال ينطبق على جميع الأطفال. لا فقط على الأطفال المصابين باضطراب التوحد. أطفالنا لديهم القدرة على معرفة نقاط ضعفنا واستغلالها. في بعض الأحيان يجب أن نكون صارمين بعض الشيء. وها أنا قد سيطرتُ على الموقف دون صراخ أو توبيخ أو انفعال.
سماح خليفة