معضلة الأمهات:
منذ أكثر من قرن، عبّر سيغموند فرويد بالكلام عن شيء أصبح منذ ذاك الحين إحدى العقائد الأكثر ترسخاً في تربية الصبيان. فقد كتب «إنّ علاقة الصبي بأمه هي العلاقة الأولى والأكثر عاطفية. بالتالي، لا بد من تدميرها». هل كان فرويد محقاً؟ هل يصبح الصبي «ناعماً ورقيقاً» فعلاً إذا ما كان مقرباً من أمه؟ لا بد للأمهات المحبات أن يجدن توازناً ما بين تدليل أبنائهن وتشجيعهم على الاستقلال والثقة.
كان فرويد محقاً بشأن مسألة واحدة بالتأكيد: إنّ علاقة الصبي الصغير بأمه هي عادة أول تجربة له في الحميمية، فهي تطعمه من ثدييها وتهدهده كي ينام وتظهر عند مهده عندما يبكي ليلاً. عندما يتعلّم المشي، تسعى أمه لأن تؤمن له المكان الآمن الذي ينطلق منه في مغامرته ليستكشف عالمه وهي من يحتضنه بدفء عند عودته. وغالباً ما تكون الأم الشخص الذي يتطوع في المدرسة والذي يخطط لحفلات أعياد الميلاد وهي من يقود السيارة المليئة بالصبيان إلى تمارين كرة القدم.
الصبيان وعمر المراهقة
لكن، عندما يقترب الابن من سن المراهقة، تبدأ الأم بتلقي إشارات مفادها أن الوقت حان كي تدعه ينطلق. فهو يرفض أن تعانقه أمام الغير ويصبح اللمس من المسائل الخاضعة لرقابة دقيقة.
قد تبتعد الأمهات الحسنات النية واللواتي لا يرغبن في خنق أبنائهن عنهم ويتركنهم في عالم الرجال وأساطير الذكورة. وهذه خسارة، خسارة غير ضرورية لكل من الأم وابنها.
ويتعرّض الصبيان أيضاً لضغط كي يضعوا بعض المسافة العاطفية بينهم وبين أمهاتهم. فمن منا لم يسمع لقب «حبيب الماما» أو «مخنّث» أو «دلوع الماما»؟. كما بتم تعلمون، تركز الحضارة الأميركية على الاكتفاء الذاتي والقوة عند الذكور فتكبح الوعي والتعبير العاطفيين. والكل يعلم أن الفتيات (والأمهات) عاطفيات؛ وبالتالي، لا بد للصبيان وفقاً لهذا المنطق أن ينفصلوا عن أمهاتهم كي يجدوا لأنفسهم مكاناً كرجال أصحاء.
معلومة ضرورية
عزا التفكير التقليدي السلوك الجانح والعدائية وحتى الشذوذ الجنسي عند الصبيان إلى غياب الأب أو ضعفه وإلى سيطرة الأم. ويقول هذا المنطق إن الصبيان يحتاجون لأن يعوضوا عن وجود هؤلاء النساء المستبدات فيصبحون «مفرطي الذكورة» (أو ينسحبون) في حركة دفاع عن النفس. في الواقع، يستفيد الصبي من وجود أم قوية تسانده وترعاه في الوقت نفسه… تماماً كما يحتاج إلى أبٍ قوي يسانده ويرعاه في الوقت نفسه.
شاهد من الحياة
تخيلوا ستيفان، البالغ من العمر أربعة عشر عاماً، وهو شاب يحب كرة القدم وألعاب الفيديو والكتب والنكات وهي اهتمامات تشاركه إياها أمه جاكي. عندما يُطرح عليه السؤال، يقول ستيفن عن طيب خاطر إنه يحب أمه، فقد ربته وحدها وهو يحترم ويقدِّر عملها الشاق وكرمها ودعمها الدائم له. عندما يكونان وحيدين، يحب ستيفان أن يجلس إلى جانبها ليقرآ وأن تحك له ظهره. وهو يعانقها دوماً قبل أن يدخل إلى غرفته ليلاً.
إلا أن الأمور تتغيّر في حضور أصدقائه. عندما يغادر المنزل في هذه الأيام، يكتفي بأن ينظر إلى أمه مقطباً ويقول بفظاظة: «أراك لاحقاً أمي». وعندما تقترب منه جاكي كثيراً وتطلب منه أن ينتبه لنفسه، يرفع ناظريه نحو أصدقائه. يقول ستيفان: «أعلم أن هذا يجرح شعورها، وأشعر بالسوء أحياناً لكن من المحرج أن أقول لها أحبك. عليها أن تدرك هذا الآن».
من المرجّح أن يشعر ستيفان لاحقاً، بعد انتهاء فوضى وتشوش سن المراهقة، براحة أكبر وهو يظهر عاطفته لأمه حتى في حضور أصدقائه. إلا أن كرامته تعتمد الآن على الحفاظ على مسافة بينه وبين أمه.
إنّ تربية الابن تعني إيجاد توازن بين قوى متعارضة: القرب والبعد، الدعم ومنح الحرية، اللطف والحزم. يمكن للأمهات بالطبع أن يتعلّمن كيف يؤمّن الحب والتنظيم وكيف يعلّمن المهارات التي يحتاجها الصبي ليصبح ناضجاً، إلا أن الحب يبقى جزءاً ضرورياً في التربية كما أن الرابط الخاص الذي يجمع الكثير من الأمهات بأبنائهن هو أمر إيجابي وليس سلبياً. يمكن للأمهات أن يعلّمن أبنائهن كيف يمكن أن يحبوا بشكل كامل وحرّ، وهن يقدمن لأبنائهن الدروس الأولى في قوة التواصل والارتباط.