قهوة أبي المالحة اللذيذة
منذ طفولتي اعتدتُ أن ألعب مع أبي الورق أو الأونو أو بعض الألعاب اللوحية كالثعبان والسلم أو لعبة إنسان حيوان شيء. كنا نقضي وقتاً ممتعاً جداً. وكانت السعادة تكاد لا تسعني. لكن كان هناك أمراً غريباً.. كنتُ دائماً أفوز.
في البداية لم ألاحظ الأمر. إلا أنني كلما كبرتُ أكثر كلما بدأتُ أفهم أكثر. أبي كان يجعلني أفوز عمداً وكان يدعي الخسارة كي يجعلني أشعر أنني قوية وأكتسب المزيد من الثقة بالنفس. والغريب حتى أنني حين عرفتُ ذلك لم أفقد ذاك الشعور المتفاقم بالسعادة الغامرة. أتدرون لماذا؟ لأن سبب سعادتي لم يكن فوزي… سبب سعادتي كان أنني ألعب مع أبي. ذاك الوقت الذي كان يخصصه لي كان يجعلني أشعر بأنني مميزة بنظره وأنني أستحق الحب والإهتمام.
ذات يوم حين بلغتُ مرحلة المراهقة، سألته بفضول “أبي لِمَ تجعلني أفوز عمداً؟ دعني أفوز بكفاءتي. أنا أستطيع الفوز”
فأجاب وهو ينظر إلي نظرة الحب والاهتمام تلك “لا أستطيع أن أرى أميرتي المدللة تنهزم. ابنتي لا تخسر أبداً. ابنتي دائماً تفوز”. لم أفهم حينها أهمية تلك الكلمات، لا بل انزعجت لأنني شعرتُ أنه يستخف بي.
بعد أن رحل بفترة فهمت. اليوم في كل مرة أقع، بعد أن يتملكني الشعور باليأس وأظن أن طاقتي نفدت، وأنه لم يعد أمامي سوى الاستسلام… أتذكر تلك الكلمات.. في كل معركة أخوضها من معارك الحياة يتردد صدى كلماته في قلبي وذهني “ابنتي قوية، ابنتي لا تخسر أبداً. ابنتي دائماً تفوز”. فأستمد قوة من حيث لا أدري وأنهض من جديد.
القهوة المالحة اللذيدة
حتى تلك القهوة المالحة التي شربها أبي لأجلي، ما زلتُ أذكرها وأبتسم. أذكر أنني ذات يوم في صغري أعددتُ لأبي القهوة ووضعتُ فيها بعض الملح كي أرى ردة فعله. كان مقلباً طفولياً صغيراً، لكنني تعلمتُ منه الكثير. وقفتُ حينها أراقبه من مكانٍ ما دون أن يراني، كان جالساً يتحدث مع والدتي. شرب أول رشفة ولم يظهر أي ردة فعل، فدخلتُ إلى المطبخ كي أتأكد إن كنتُ قد وضعتُ الملح فعلاً. وكان فعلاً ما وضعتُه في القهوة ملحاً. أنهى قهوته كلها ولم يتفوه بكلمة. اتجهتُ نحوه حينها وسألته “أبي أخبرني بصدق، ألم تلاحظ شيئاً غريباً في القهوة؟”. أجاب ضاحكاً “بلى لاحظت، لكن كل شيء تقدمه ابنتي لذيذ. لا يهمني الطعم. يكفي أنكِ أنتِ مَن حضرها لي”.
الطفلة التي يقدرها والدها ويدللها تصبح امرأة لا تُهزَم
تعلمتُ من هذا الموقف أننا حين نحب شخصاً فعلاً نحبه دون قيدٍ أو شرط، نحبه بعيوبه قبل حسناته، وندعمه في محاولاته مهما كانت بسيطة.
والآن اخبروني. كيف لامرأة كان والدها بهذا القدر من الحنان معها أن تنهزم! كيف لأمٍ كان والدها يحمل في قلبه هذه الثقة بها وهذا القدر من الإحترام لها أن تستسلم!
إلى الآباء أتوجه. لا تستخفوا بدوركم في حياة أطفالكم. التربية لا تقتصر على الأمهات. تأثير الأب في نفوس وقلوب أطفاله لا يٌنسى مدى الحياة.
سماح خليفة