أخطاء فادحة نرتكبها يومياً بحق أطفالنا دون أن نعلم حجم تأثيرها على قلوبهم
لم يكن الحدث بهذا الحجم. لم أكن الوحيدة التي تتأخر على موعد اصطحاب طفلتها من المدرسة. لكنني كنتُ خائفة من أن أسمع هذه العبارة مجدداً “أمي، لقد تركتني”. لا يمكن لأحدٍ أن يفهم وقع سماع هذه العبارة على قلبي. إنه لأمرٌ مؤلمٌ بنفس حدة الأسى الذي تسببه ذكريات طفولتي.
إنها عبارةٌ لم أتجرأ يوماً على قولها لأمي لكنني عشتُ كل تفاصيل معانيها بمفردي.
لقد كانت وما زالت هذه العبارة تحفر وجعاً عميقاً في قلبي لا تردمه مواساة كونٍ بأسره. نعم لقد تركتني. لم تتركني عملياً، فقد كنا متواجدين في نفس المنزل. لكن المسافة التي كانت تقف بيننا كانت كبيرة جداً، كبيرة بحجم آلامٍ تحاصر قلب أمي وهموم لا تنتهي، بحجم توترها وقلقها وخوفها الدائم وانفعالها الزائد على أبسط الأمور، وبحجم انعدام التواصل الذي كان يقتصر على انتقاداتها لي ونصائحها وتوجيهاتها واستخفافها بي ومقارنتها بيني وبين الآخرين. أي شخصٍ آخر كان بنظرها أفضل مني.
قرأتُ منذ فترة عبارة على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، عبارة بسيطة جداً أبكتني لساعات، لقد كان المنشور عبارة عن صورة لإحدى الفتيات في زي التخرج كتبت فوقه “ذات يومٍ سأجعلكِ تفتخرين بي يا أمي”. اليوم وبعد أن تخرَجتُ وتزوّجتُ ونجحت في أكثر من عملٍ تولّيته وأصبحتُ أماً لديها 3 أطفال، ما زلتُ أبحث في عينيها عن نظرة افتخارٍ أو حب أو اهتمام.
أعرف أنها تعاني من مشكلة في القدرة على التعبير عن المشاعر، حتى أنها ترفض أنواع التعبير الجسدي وغير اللفظي، أمي تكره حتى العناق والقبل. أعرفُ انها ضحت لأجلي كثيراً. لكن الفراغ الذي نما وكبر داخلي ليس بيدي، لم اختلق هذه المشاعر من عدم، ولستُ أختلق الحجج كما يظنون.
لطالما سمعتُ عبارات ك”آن الأوان كي تتخطي الماضي!” و”عليكِ أن تتوقفي عن لوم الآخرين وتبدأي بالتغيير”… ما لا يدركونه فعلياً أنني حقاً أحاول. لكن مواقف صغيرة وبسيطة قادرة على إرجاعي بسهولة إلى نقطة الصفر. كيف لا وأنا لا زلتُ حتى يومنا هذا بنظرها لا شيء. أنا أعلم أنني حققتُ أموراً جيدة في حياتي، وأنني تخطيتُ الكثير من الصعاب وحدي دون مساعدة أحد وأنني لستُ شخصاً سيئاً إلى هذا الحد.
لكنني سأبقى وإلى آخر يومٍ في عمري تلك الطفلة الصغيرة التي ما زالت تبحث في عيني أمها عن تلك النظرات ولا تجدها.
لا تستخفوا بأثر أي شيء على قلوب أطفالكم..
هناك أخطاء فادحة نرتكبها يومياً بحق أطفالنا دون أن نعلم حجم تأثيرها على قلوبهم.. كلمة جارحة، إهمال، نسيان، تخلي، بعد…أحياناً عدم فعلكم شيئاً قد يكون وحده كفيلاً بتدمير كل شيء. حين يأتي طفلكم وهو يحمل ورقة امتحان نال عليها علامة جيدة ويعطيكم إياها منتظراً نظرة حبٍ وفخرٍ وتشجيع، فتضعونها جانباً وتكملون اتصالكم الهاتفي، إنها جريمة. حين يأتي طفلكم باكياً ليخبركم عن مشكلة واجهته وتبدأون بلومه عوضاً عن مواساته، هي أيضاً جريمة. عندما تتأخرون عليه لاصطحابه من المدرسة، ويرى جميع أصدقائه قد رحلوا وأمه أو أبيه تأخروا في الحضور ولا تعتذرون منه وتبررون هذا التأخر، هي أيضاً جريمة.
إنتظروا ! هناك المزيد والمزيد من الجرائم التي نرتكبها يومياً بحق أطفالنا دون أن نعلم. ماذا عن تلك الأوقات التي نشعر فيها بالغضب ربما من مديرنا في العمل أو من صديقتنا أو بسبب ظروف مادية، فنبدأ بالصراخ ونشر التوتر في أرجاء المنزل، فيقف طفلنا منزوياً محتاراً أيقترب أم يبتعد، ويفكر بينه وبين نفسه أنه قد يكون السبب، ويحمل عبئاً أكبر من سنه ويصيبه شعور بالذنب لخطأ لم يرتكبه… تلك اللحظات التي يشعر فيها الطفل بالضياع والخيبة والحزن هي أيضاً جريمة، وقد عانيتُ من تداعياتها مع أمي بشكلٍ يومي. حتى ظننتُ أنني فعلاً السبب واستغرقت وقتاً طويلاً حتى أكتشف أن الحقيقة مختلفة.
جلستُ منذ فترةً وجيزة مع أمي اللدودة، التي رغم أنني أحبها حقاً ما زلتُ لا أدرك سبب عدم تقبلها لي إلى هذا الحد. وبدأتِ بتعداد أخطائي وصفاتي السلبية كالعادة “أنتِ فوضوية، أنتِ غير منظمة، أنتِ أم فاشلة، لا أستطيع أن أتقبل أسلوب حياتكِ…”. ابتسمتُ بهدوءٍ ونظرتُ إليها قائلةً “ألا يعجبكِ شيءٌ بشخصيتي يا أمي، أي شيء؟”. أكملت حديثها كأن شيئاً لم يكن.
أحياناً أتساءل ما بها، أهي حقاً لا تدرك أن هذه العبارات مؤلمة؟ أم أنها لا تأبه لمشاعري إطلاقاً؟ وهل من الطبيعي أن تتعامل الأم بهذه الطريقة مع ابنتها؟ هل المشكلة في شخصيتي حقاً؟ هل أنا لا استحق الحب والاحترام إلى هذا الحد؟
لهذا السبب أرفض رفضاً قاطعاً أن أكون سبب تراكم مشاعر كهذه في قلب ابنتي. لهذا السبب، عبارة “أمي لقد تركتني” تقتلني.
إذا أعجبكم مقال “أخطاء فادحة نرتكبها يومياً بحق أطفالنا دون أن نعلم” لا تترددوا في مشاركته وكتابة رأيكم في خانة التعليقات.