عندما جاءت ناديا لتصطحب ابنها البالغ من العمر 5 سنوات من المدرسة، أدركت على الفور أنه ليس على ما يرام.
فهي تعرف عن ظهر قلب هذه النظرة اليائسة وهذه السحنة البائسة:
عاش ناثان من جديد يوماً مريعاً في المدرسة.
تعرف ناديا تمام المعرفة ما سيحصل بين لحظة وأخرى. ولم تنتظر طويلاً… فما أن اجتازا عتبة المنزل حتى حاول ناثان أن يخلع حذاءه. لم ينجح من المرة الأولى لكنه استمر بالمحاولة بعنف. ومن شدة غضبه، ضرب قدمه المعاندة بالأرض وأجهش أخيراً بالبكاء. حاولت ناديا أن تواسيه بقدر استطاعتها ولدقائق طويلة. كما في كل مرة…
بعد ظهر ذاك اليوم، غضب ناثان مجدداً، وكان يبكي ويغضب بسبب أمور تافهة ولا قيمة لها ومهما بذلت والدته من جهود لترضيه، لم يكن راضياً. ثمة خطب ما دائماً، ثمة ما يزعجه دوماً، ما يقلقه وما يخيفه… بدا وكأن الأمر لا ينتهي.
وحتى عندما يُفترض به أن يكون فرحاً، خلال حفل عيد ميلاد أو مشوار مميّز، ينتهي به الأمر منزعجاً أو في حال يرثى لها.
وما يزيد الطين بلة هو أن الناس من حولها غالباً ما يعلّقون على الأمر ويعطونها ملاحظات. “ألا ترين أن ناثان يبالغ؟” “لمَ يبكي بهذا القدر؟” “ابنك لا يفرح أو يرضى أبداً” “يا إلهي، هذا الطفل يأخذ الأمور بحساسية زائدة!” هذا الجمل الصغيرة، وإن قيلت بنيّة حسنة، كانت تجرحها وتجعل الشك يتملكها: ماذا لو كان ابني يعاني من خطب ما؟
في الآونة الأخيرة، أصبحت ناديا تفقد أعصابها سريعاً أمام انفعالات ناثان العاطفية. كلما غضب، شعرت وكأنها وقعت في فخ ما فتتملكها أحاسيس سيئة ومزعجة. عندما تراه مقبلاً وهو يبكي، تشعر بعقدة تتكون في حلقها على الفور، وبقلبها يطرق بسرعة جنونية وبثقل يرزح على صدرها.
عندما يحصل هذا، عليها أن تتحامل على نفسها كثيراً كي لا تفقد أعصابها معه (ولن نتكلم هنا عن العطف والحنان).
يبدو الوالد أقل قلقاً على ابنه من الأم ويقول إنّ ناثان يتذمّر ويظهر مشاعره أكثر من سواه من الأطفال لكن حاله جيد في العموم. ويقول إن لا داعي للقلق الذي تظهره. هذا الجواب يغضب ناديا ويزعجها.
تشعر وكأنه يضع ستاراً أمام وجهه ويرفض أن يرى أنّ ابنه ليس كباقي الأولاد. ويخطر لها “ليت ناثان أكثر خفّة، وتوازناً وأقل تشوشاً وخاصة أكثر مرحاً وهناءاً”. ” ها هي الصغيرة روز على سبيل المثال. تراها طوال الوقت مبتسمة، وتجدها منفتحة على الناس وتتعامل معهم من دون أيّ مشكلة كما أنها تمازح من يرغب في أن يجاريها.
كل هذا وهي في السادسة من عمرها فقط! لمَ لا يمكن لابنها أن يكون مثلها.”
مما لا شك فيه أنها تشعر بالذنب لأنها تقارن ابنها بابنة صديقتها، لكنها لا تستطيع منع نفسها.
وتتساءل من جديد: “ماذا لو كان ناثان يعاني من مشكلة ما؟”… ما تجهله ناديا هو أنّ سلوك ابنها في الحياة يؤثر فيها بشكل خاص لأنه يوقظ في داخلها جزءاً من ذاتها أخفته منذ وقت طويل…
لو عادت ناديا إلى ذكريات الطفولة لديها، وغاصت فيها لتذكّرت من دون شك شعورها بأنها البطة السوداء البشعة في القصة.
لكن وخلافاً للبطة البشعة في القصة، لم تكن هي تعرف أين يكمن الاختلاف فهو لم يظهر عندها على شكل علامة جسدية أو إعاقة معيّنة. كانت تشعر بذلك وحسب في داخلها لاسيما حين تكون محاطة بالآخرين.
اكتشفت ناديا منذ صغرها أنّ ما يؤثر فيها لا يؤثر في الآخرين، وأنّ ما يقلقها لا يثير اهتمام الآخرين أبداً، وأن محاور اهتمامها لا تتماشى مع اهتمامات الآخرين، وأنّ تساؤلاتها لا تعني الآخرين. هؤلاء الآخرون الذين يختلفون عنها كثيراً.
ولكي تشعر بأنها محبوبة وتتماشى مع محيطها، طوّرت ناديا مواهبها في فهم التلميحات والقراءة بين السطور، لا بل في توقّع حاجات المحيطين بها واستباقها. وبذلت قصارى جهدها كي ترضي هذه الحاجات على أفضل وجه.
تعلّمت أن تسيطر على نفسها عندما تشعر بأن الأحاسيس والانفعالات تتصاعد في داخلها وتكاد تتغلّب عليها. وتعلّمت أيضاً أن تعزل حاجاتها الخاصة وتنقطع تدريجياً عن رغباتها وأحاسيسها وجسدها. وانتهى بها الأمر بأن اصبحت تجهل من هي فعلاً وماذا تريد لنفسها. أن تذوب في القالب الجماعي وتتماشى مع المحيط هو الثمن الذي توجّب عليها أن تدفعه كي لا تنعزل عن العالم.
طاردها الشعور بأنها وحيدة وبأنها ليست في مكانها الصحيح لوقت طويل على الرغم من الجهود التي بذلتها لتكون طبيعية. نعم لوقت طويل، وحتى اليوم في الواقع.
وبعد أن عقدت العزم على المضي قدماً وعلى “الخروج من وضعها هذا”، أوجدت لنفسها مكاناً في المجتمع، وعثرت على وظيفة جيدة وأصبحت أماً وشريكة حياة.
لكن، وعلى الرغم من هذه الحياة التي فصّلتها لنفسها، كانت موجة المشاعر المشوّشة تغمرها في نهاية الأمر. وتشعر ناديا بكثير من الذنب عندما يتملّكها القلق والغضب الجارف، فهي تجد أنها تبالغ وانها تملك كل ما تحتاجه لتكون سعيدة وينتابها شعور بالذنب حين تغرق في هذا النوع من الاكتئاب الذي لا يبارحها ويبقى متربصاً بها في الخلفية، حارماً إياها من أيّ طاقة وفرح وصبر في حين أنها تفعل ما في وسعها في الظاهر كي تُظهر “أنها بخير”.
عندما تصيبها لحظات “الاحباط” هذا، تشكك ناديا في نفسها وتنتقدها وتقرر أن تكون امرأة أفضل بعد، وأماً أفضل، وزوجة أفضل وتبذل كل ما في وسعها لبلوغ ذلك بكل تصميم. إنما، وفي داخلها، في الكهف حيث أخفت رغباتها وأحاسيسها، ثمة قوة تضرب بعنف وتدعوها للعودة إلى ذاتها، إلى اختلافها. وهذا ما يخيفها جداً…
تودّ لو تجد مفتاح “ايقاف”، يترافق مع مفتاح “طبيعي ومرتاح”، لكنها لا تجدهما وهذا ما يغيظها للغاية.
إذن، ما الرابط بين معاناة ناديا المكبوتة وطباع ابنها؟ يوقظ ناثان بأسلوبه وطريقته في الحياة، هذا الجزء من ذاتها الذي لم يتقبّله أحد ولم يستمع إليه أحد ولم يحبه أحد يوماً. جزء الاختلاف، والحدة والصعوبة في فهم هذا العالم والعيش في تناغم معه، هو نفسه وكما هو، والذي يظهره ابنها في سلوكه.
يعكس ناثان بشكل مؤلم هذا الاختلاف الذي يميّزهما هما الاثنين. لكن، وخلافاً لناديا، لم يكبت ناثان مشاعره وانفعالاته وحاجاته وطريقة تعامله مع العالم ويحبسها في “كهفه الداخلي”. لم يعش بعد طويلاً كي يذوب في القالب. كما أن والديه ولحسن حظه، مستعدان لسماع حاجاته ومشاعره، ما يجعله غير مجبر على إخفاء طبيعته وحقيقته على الأقل في المنزل. وحتى لو شعر أحياناً أنّ أمه تتعذب بسببه، من دون أن يفهم السبب، إلا أنه يتمتع بهامش تعبير أكبر مما عرفته أمه في صغرها.
اضطرت ناديا بحكم تربيتها أن تتعلّم سريعاً كيف تخفي انفعالاتها وحاجاتها وتحجزها إلى حدّ أنها حرمت نفسها من هذه الأحاسيس والرغبات لتتجنّب فيضانها. وانتهى بها الأمر بأن انشأت جداراً بينها وبين الآخرين لئلا يتم تحطيمها والقضاء عليها. وما انفك الشعور بالوحدة يتعاظم مع الوقت، حتى حين تكون محاطة بأشخاص آخرين، لا بل خصوصاً في هذه الحالة.
لم تعد ناديا التي انقطعت عن ذاتها تتذكر لكن جسدها وحياتها يتذكران. وبما أنهما كريمان جداً، تجدهما يصدران الكثير من الضجيج والصخب كي يلفتا انتباهها.
عندما يوقظ ناثان أمه، ليلة تلو الأخرى وهو يبكي، يصرخ بها على طريقته: “ماما! استيقظي!”. وهذا النداء ليس للاستيقاظ من نومها بل من حالة الانقطاع عن ذاتها وعدم التواصل معها.
تُدعى ناديا يومياً من قبل الحياة عموماً ومن قبل ابنها خصوصاً، كي تعود إلى ذاتها لتستقبل وتحب ما هي عليه بالكامل، بما في ذلك اختلافها!.