“كوني طفلة مهذبة، حين يتحدّث مَن هم أكبر منكِ سناً لا تجادلي”
هذه الجملة شائعة جداً، يظن الأهل أنهم يربون طفلهم على الأخلاق الفاضلة، لكن في الحقيقة، إنها مجرد عبارة خاطئة توارثناها عن أجدادنا، تماماً كأساليب التربية القديمة التي تعتمد الضرب أسلوباً للتأديب.
هذه العبارة التي كرّستُ أسلوب حياتي وأنا أظنها من أهم القيم الأخلاقية التي تربيتُ عليها.. كانت مصدر تعاستي! وستكون سبب تعاسة أطفالكم إن قمتم بتربيتهم على نفس المبدأ.
سألخّص لكم المعاني والمفاهيم الخاطئة والرسالات التي سيتلقاها الطفل عبر هذه العبارة.
الشخص الأكبر سناً يجسّد السلطة والقوة للطفل
حين تقومون بتوجيه كلماتٍ كهذه لطفلكم. فأنتم تؤكدون له أن كلمات مصدر السلطة أوامر يجب تنفيذها دون نقاش. وهذا ما سيظنونه بقية حياتهم. حين تغضبهم أختهم الكبرى سيلتزمون الصمت، حين تخطئ معلمتهم وتعطيهم علامة أقل مما يستحقون في الإمتحان، سيلتزمون الصمت. وحين يهينهم رب العمل عندما يصبحون راشدين، سيلتزمون الصمت! فالتربية لا تقتصر على مرحلة الطفولة فحسب، بل تترسخ في أعماقنا ونصطحبها معنا مهما كبرنا أينما نذهب.
إحترام الآخر يعني التزام الصمت
سيظن الطفل أن احترام الآخر مرتبطٌ بعدم مجادلته.. إنه مفهومٌ لا أساس له من الصحة! إحترام الآخر لا يمنعنا عن التعبير عن رأينا بطريقة لائقة ومهذبة حتى لو كان معاكساً. واحترام الآخر لا يعني أن تقبل الإهانة منه لأنه “أكبر”. إحترام الآخر لا يعني أن نسكت عن حقنا لأن “الكبار دائماً على حق”. إن كبر الطفل على هذا النهج، سيكتفي بالاحتفاظ بأفكاره لنفسه، وسيكبر وهو يظن أن التعبير عن مشاعره وأفكاره المعاكسة لرأي الآخر وقاحة. سيصبح طفلكم شخصاً حزيناً صامتاً، هادئاً من الخارج يضرب قلبه ألف إعصار من الداخل. أنا لا أبالغ! أذكر مواقف لا حصر لها كنتُ أرغب فيها بالتعبير عن إعتراضي على أمرٍ يمسّ كبريائي، لكن هذه العبارة المترسخة في ذاتي كبّلتني. كنتُ أظن أن غضب رب العمل ووقاحته مبررين، فهو مصدر السلطة وهو مَن يتحمل كل المسؤوليات وهو “الأكبر سناً”، إلى أن اكتشفتُ أن هناك أشخاص كلما التزمتَ الصمت احتراماً لهم.. كلما ظنوا أنك شخص ضعيف وتمادوا في عدم احترامهم لك.
الطاعة تهذيب وسلوكٌ جيد
لا تجادل، أي أنه يجب إطاعة الأوامر دون نقاش.
- ماذا لو أن طفلكم يريد أن يفهم المزيد؟ بهذه الطريقة سيصبح تنفيذ الأمر نوعاً من الطاعة دون إدراك سبب الطلب أو الأمر. كأن العلاقة بين الصغار والكبار علاقة “عبودية” لا تفاهم وثقة.
- ماذا لو أن قرار الشخص “الأكبر سناً” لا يناسب الأخلاقيات التي ربيته عليها؟ لا أقصد هنا فكرة النوم باكراً أو إنهاء دروسه أو عدم رمي الألعاب على الأرض. لكن ماذا لو طلب منه أحد الكبار أن يكذب؟ أو أن يخفي عنكِ سراً؟ أو أن يقول كلمات نابية؟ الكبار ليسوا دائماً على حق. أنتم بهذه الطريقة تلغون تفكير طفلكم وفرصته لتحليل الأمور واختيار الصح أو الخطأ.
- ماذا لو كان لدى الطفل رأيٌ آخر ربما قد يوافق عليه؟ استعدوا لهذه المعلومة المؤكدة (عن تجربة). أنتم تقتلون حس المبادرة لدى هذا الطفل. سيبقى متردداً في التعبير عن رأيه أو أفكاره خوفاً من أن يقول ما هو غير مناسب.. طيلة حياته. لا تتفاجأوا بعدها، إذا اتصلت بكم المعلمة في الصف لتخبركم أن طفلكم قليل الكلام ولا يشارك كثيراً.. وحس المبادرة هو المسؤول عن كل القرارات المصيرية في حياتنا. استغرقتُ وقتاً طويلاً جداً حتى قررتُ أن أكسر حاجز الخوف داخلي وأتخذ القرارات الصحيحة حتى لو لم يوافق عليها “الكبار”.
ما هو البديل؟
“حين يعارضكَ أحدهم في الرأي (أياً كان سنه) عبر عن رأيكَ بتهذيب واحترام، وستصلون إلى حلول مشتركة”.. لا تخافوا فهذا الأمر لن يهدد سلطتكم كأهل، بل ستبنون علاقة مبنية على التفاهم و”الإحترام الحقيقي” مع طفلكم. أن ينفذ طفلكم الأوامر دون نقاش لا يعني أنه في قرارة نفسه يحترمكم. إن أردتم أن تكتشفوا إن كان الطرف الآخر يحترمكم فعلاً، أعطوه حرية الخيار، أزيلوا كل القيود، لا تحاولوا فرض السلطة عبر قمعه، وستكتشفون الحقيقة.
لطالما توصّلتُ مع ابنتي إلى حلول وسطى:
- أمي لا أريد أن أنام الآن.
- الجواب الخاطئ: لا تجادلي، أخلدي إلى النوم!
- الجواب المقترح: لماذا يا صغيرتي؟
- أريد أن ألعب معكِ.
- حسناً نامي الآن وأعدكِ أن نلعب غداً لعبةً جديدة ستحبينها كثيراً.
أبي لا أريد أن أذهب إلى المدرسة.
- الجواب الخاطئ لا تناقش، ارتدِ ملابسك الآن!
- الجواب المقترح: لماذا؟ ألم تشتق لأصدقائكِ بعد الإجازة؟
- لقد ضربني أحمد وقال لي كلاماً وقحاً. وحين أخبرتُ الناظرة لم ترد علي، وقالت إذهب إلى صفك.
- لِمَ لم تخبرني؟ سنحل الأمر اليوم ونكلّم الناظرة وأطلب مقابلة أهل أحمد.. لا تقلق.
عمة الطفل: أنتَ طفلٌ عنيدٌ جداً، يجب أن نكون أكثر صرامةً معك.
- الرد الخاطئ: الصمت.
- الرد الصحيح: أنا لستُ عنيداً، لكنكِ قلتِ لي ألا ألعب في المنزل ولا في الخارج، وحين جلستُ لأشاهد الفيديو على الهاتف، قلتِ إنني لا أفعل شيئاً سوى مشاهدة الفيديو.. أنتِ تعترضين على كل شيء، وهذا يزعجني.
في الموقف الأول انتهزت الأم فرصة لإيجاد حل وسط.
وفي الموقف الثاني، شجع الوالد الطفل على التعبير عما يفكر فيه، واكتشف المشكلة التي يعاني منها الطفل بدلاً من تركه يعاني بصمت.
في الموقف الثالث، أعرف أن الكثير منكم سيعتبرون هذه وقاحة، لكن من وجهة نظري تعبير الطفل عن مشاعره ليس وقاحة. فالطفل الذي لا يعبر عن حزنه وغضبه عبر الكلام سيعبّر عنها عبر سلوكٍ سيء، أو عبر استخدام العنف، أو رمي الألعاب أو ضرب أخته أو القيام بحركات استفزازية.. أو عبر ما هو أخطر من ذلك كله: الإنعزال!