للكلمات سلطة كبيرة : بها تنجح وتعلو وبها تفشل وتؤذي.. كيف؟
سلطة الكلمات
يتمتّع «هاري» بسهولة في الكلام. يهتم بمظهره ويسعى لاجتذاب محادثيه. ارتاد إحدى الجامعات الكبرى في البلاد وشهادته في العلوم التجارية العليا تجعله يشعر بالراحة والرضا عن نفسه. تسير الأعمال ببعض البطء، لكنّ السبب في ذلك هو سوء الحظ. «فهاري» شخص متفائل، ملآن إلى النصف بالأمل لا فارغ إلى النصف من أوهامه.
تمرّ السنون وحياة «هاري» المهنية تراوح مكانها. ومن دون أن يدري، أصبح كلامه مزدحماً بصيغ كلامية قاتلة.
“صباح الخير، أودّ لو أتحدّث إلى السيد فلان من طرف «هاري مارتين». “صباح الخير سيّد فلان، معك «هاري مارتن» من الشركة xxx ! أودّ لو أقترح عليك مقابلة… كيف؟ ليس هذا الأسبوع؟ آه! حسناً! أجل، فهمت! أجل ولكن، كلاّ… فهمت، طبعاً ! حسناً! كنت أعتقد أنه من الممكن أن أريك المجموعة الجديدة لـ… أجل، كلاّ! فهمت! أنا متأسّف، أعتذر على الإزعاج … مرّة أخرى، ربّما؟”
استخدم «هاري مارتن» تسع صيغ مؤذية في ظرف بضع عشرات من الثوان قضاها على الهاتف وهو غير مدرك لذلك إطلاقاً. لا يتمتّع «هاري» بأي قدرة على الإقناع، أو حضور، مما يفسّر نسبة الفشل الكبيرة التي يسجّلها في اتصالاته الهاتفية.
إن الكلمات التي تتدافع في فمكم لتشكيل جملة، تخضع لأوامر وعيكم غير المدرك لقدراته الصدئة. كل كلمة تنطقون بها هي عبارة عن كمّ من الطاقة، وكل تجمّع من الكلمات التي تلفظونها هو عبارة عن دفق من الطاقة. إن معظم الناس يتكلّمون ولا يقولون شيئاً. لا يدرون ببساطة مدى سلطة الكلمات
«ليس لدي شيء أقوله لك» جملة تثير دون شك استياء المتلقّي، ولكن بعد «صباح الخير، كيف الحال؟» يمكن أن يخوننا الإلهام ولا نجد أي إشاعات ننشرها أو أخبار طازجة نستهلكها بسرعة قبل أن تذبل. لن ننظر بالتأكيد الواحد في عيني الآخر دون أن نقول شيئاً. نحتاج إلى أنصاف كلمات، إلى ثلاثة أرباع آراء، إلى وجهات نظر ونصف، إلى أخبار تافهة عن حياة عادية، من أجل ردم الفراغ الذي يمتد بين شخصين ليس لديهما ما يقولانه الواحد للآخر. لا ينظر معظم الناس أبداً في عينيّ الكلمات. ولكن ماذا يعني حقّاً أن ننظر في عينيّ الكلمات. وكأنّ للكلمات أعين! على أنّ الكلمات تنظر إليكم وتشاهدكم تتصرّفون.
فكرَّ أو اعتقد؟
إن اختيار فعل محوري (محور أو مركز الجملة) معيّن دون غيره من بين جميع المفردات التي تتوفّر لنا، ليس أمراً بريئاً كما يمكنك أن تظنّ: «أعتقد أنه يجب عليك أن تبذل جهداً أكبر» هي غير «أفكّر بأنه يجب عليك أن تبذل جهداً أكبر». إن العروس الشابة المتزوّجة حديثاً «تعتقد» مع إثارة بعض الشكوك. لا تثق بشريكها، لكنّها تستخدم هذا الفعل لتُوهم نفسها بأنها «تعتقد» أو تؤمن به. المواطن الذي يتبنّى المواقف السائدة «يفكّر»، ولكن هل يفكّر حقًّا أو أنه ليس سوى صدى مستنسَخ للفكر الواحد الأوحد الذي يسمح له بالتشبّه بكافة الذين يتجمّعون ليتشابهوا؟. يستخدم المتكلّم الكلمات ليريح ضميره وليس فقط لنقل الرسالة.
زمن الإحباط
لدى كلّ منّا طريقة محدّدة للتعبير وفق معايير مختلفة (المستوى العلمي، الثقافة، الذكاء، الوسط الاجتماعي، الخ)، غير أن الطريقة التي نركّب بها جملنا، وتناسُب الأفعال الذي نفضّله في العبارة، واستخدام بعض الألفاظ غير المقصودة أو الرائجة تنتمي جميعها إلى خطاب تلاعبت به التربية التي شكّلت فكرنا.
تسأل الأم المكتئبة بقلق: «ألا تود مراجعة دروسك؟» . إن العبارة الاستفهامية المستهلَّة بالنفي (ألا) والمرفقة بفعل غير جازم (تودّ) تحثّ تلقائياً على النفي أو الرفض. واستخدام الإيجاب ولكن مع نفس الفعل غير الجازم مثل: «أتودّ مراجعة دروسك؟» يولّد التردّد. أمّا صيغة الإيجاب القائمة على الزمن الحاضر ومن دون استفهام فتحض على التنفيذ، من دون تفكير مسبق، في معظم الأحوال: «أريدك أن تراجع دروسك» . إن كل مَن يثبت نفسه بالكلام يكون موجوداً في نظر نفسه وحتماً في نظر الآخرين. بالنسبة إلى أي شخص مكافح ومواجِه، لا يعني استخدام أفعال الإمكان والاحتمال أنها ستتحقّق حتماً. أمّا بالنسبة إلى الشخص المكتئب والمحبط فهي موجودة حقاً.
حركة الكلمات المؤذية
في نفس هذا الإطار، إن مجرّد الإصغاء إلى الآخر، وهو فعل رحمة بالأساس، يمكن أن يصبح عملاً يغني فاعله إذ يسمح بفهم أفضل لما يحفّزه. ولا يتعلّق الأمر بتسليط الضوء على فقر المفردات التي ينغلق فيها البعض، ولكن بفك رموز سوء استعمالهم للغة ولغتهم الخشبية والانحرافات عن المعنى والتعابير الملطِّفة.
باختصار، تعيق الكلمات المؤذية القدرة على التحاور وتقلّل من قيمة الرسالة التي نريد أن نبعثها. يمكن للكلمات أن تكون فيروسات أو أدوية مضادة لسوء المعاملة الكلامية. ويتوقّف ذلك على الطريقة التي تُستخدَم بها. فالكلمات تحضُرُنا تلقائيّاً لكنّ معناها المزدوج يفوت إدراكنا.
الزائد عن الحدّ لا يكفي أبداً
«أقتل نفسي من العمل» هي طريقة في الموت قبل الأوان، طريقة في برمجة رحيلنا لكي لا نضطر إلى مواجهة فراغ المستقبل الذي لا يحمل أي إنجاز. وعندما تُصرَّف العبارة في صيغة المخاطَب ويقولها الشريك بعطف أو على شكل لومٍ، تصبح هذه الصيغة سمّاً يقطَّر قطرةً فقطرة: «ستقتل نفسك، يا عزيزي…». العمل حتّى الإعياء هو نتيجة تلويث كلامي وليس حاجة للقيام بأكثر ممّا ينبغي إذ حتّى ما هو زائد عن الحدّ لا يكفي أبداً. من الصيغ الكلامية المكرَّسة على لسان العامل المسبّب للمرض: «أنت تقوم دائماً بأكثر ممّا ينبغي».
وتتوجّه إحدى الأمّهات إلى شاهد في وجود ابنها فتقول له: «لا يفعل إلاّ ما بدا له». وهذه أيضاً طريقة أخرى لغرس فيروس العمل حتّى الإعياء عبر استخدام صيغة الغائب من أجل البعث برسالة غير مباشرة إلى ابنها. فيشعر الابن أنه مجبَر على الإثبات لأمه (أو إلى التي أخذت في وقت لاحق دور أمّه) أنه قادر على تحقيق غايته بفضل حسّ المبادرة المذهل الذي يتمتّع به والقوّة الهائلة التي يضعها في عمله. لذلك، يضاعف جهوده ويعيش بسرعة 5000 ـ 6000 دورة في الدقيقة لكي يصل إلى هدفه. ثم، عارض في القلب أو ذبحة حوالى سنّ الأربعين، أو قبل!
لكنّ الكلمات المؤذية تبقى حاضرة دائماً وأبداً.. سلطة الكلمات تبقى
هل أنتم من الأشخاص الذين يشعرون بأن سلطة الكلمات موجودة عندهم (موقع التربية الذكية)