حب الأم : سلاح يقتل الولد أو يحييه
حب الأم:
حين أتذكر طفولتي، يغمرني الشعور بالسعادة وأفكر بأن هذا أعظم كنز أحمله في داخلي. فما هو التعلق العاطفي؟ أظن أن هذه الفكرة تسكن ذاتي منذ سنوات.
فقد كبرتُ على يد أمٍ كانت تغمرني بالاهتمام والحب، وقد كوّنتُ معها رابطاً غير قابل للكسر. حتى أنه ما زال بنفس القوة والتماسك حتى يومنا هذا، على الرغم من أنني أصبحتُ راشدة.
لقد كان جدي وجدتي متواجدين في ذاك الوقت، وكذلك خالي وخالتي وأطفالهم. إلا أنه حب لم أتمكّن يوماً من تفسيره ببضع كلمات فقط. إنه حب لا يمكن اختصاره بتصرفٍ بسيط، هو حبٌ جعلني ما أنا عليه اليوم. هو حب الأم
ولكن ما هو حب الأم هذا بالضبط؟
إنه رابط عاطفي بين الوالد (الوصي) والطفل، إنه قاعدتي الآمنة. وبسبب الحب الذي ما زلتُ أكنه حتى اليوم لأمي، أود مشاركة ما أعرفه في مجال التعلق العاطفي مع كل الأهل وأتمنى لو باستطاعتي مساعدتهم في الدور الأكثر صعوبة الذي نتولاه في حياتنا كراشدين.
أود أن أبدأ بأمثلة من عالم الحيوان ومن ثم الإكمال بالتحدث عن الجنس البشري. فكروا في الطريقة التي تتعامل بها الحيوانات مع صغارها، القردة الأم وصغيرها، أم الباندا وصغيرها، الكلبة وصغيرها.
وفق هذا التسلسل الهرمي، يُعد الكائن البشري هو الأكثر حرماناً عند الولادة. ففي الواقع، الطفل الرضيع لا يستطيع أن يحتضن والدته بين يديه كما يفعل صغير القرد. لذلك يبكي حين يحتاج إلى اللمس والعناق.
وفعلياً فإن رائحة والدته والدفء بين أحضانها يشعرانه بالأمان.
بالتالي، علينا أن نستجيب للإشارات التي يعطيها الطفل بإشارات نعبر له بها بالمقابل. ووفق طريقة استجابة الأم أو الشخص الذي يهتم بالطفل، تتولّد بعض الروابط داخل الطفل.
اسمان هامان
لا أريد أن أثقل عليكم بالنظريات. لكن لا بد من أن أذكر إسمين مهمين جداً حين يتعلق الأمر بنظرية التعلق العاطفي، وهما جون بولبي J. Bolby، وماري اينسورث M. Ainsworth. هذان الشخصان مسؤولان عن فهمنا للعلاقة بين الأم والطفل.
عام 1958، صرح جون بولبي أن التعلق العاطفي الآمن يخلقه التواصل مع الأشخاص الذين يعتنون بالطفل ويلبون احتياجاته. ينشأ هذا النوع من التواصل العاطفي لدى الأمهات اللواتي يستجبن إلى الإشارات التي يطلقها الطفل بطريقة مناسبة وتتلاءم مع احتياجاته.
نموذج التواصل العاطفي غير الآمن هو عكس النموذج الآمن تماماً، هذا النموذج يتضمن بالتالي الأمهات أو الأشخاص الذين يعتنون بالطفل ولكنهم لا يستجيبون إلى الإشارات التي يطلقها بالطريقة المناسبة.
وقد قسمت ماري اينسورث نموذج التواصل العاطفي غير الآمن إلى قسمين: متناقض ومتجنب.
يمكننا التعرف على الأطفال الذين لديهم نمط ارتباط عاطفي متناقض مع أمهاتهم لكونهم يجدون صعوبة في الانفصال عنهن. وبمجرد أن يصبحوا قريبين من أمهاتهم فهم يحتاجون إلى تبادل الحنان، فيما هم يشعرون في الوقت نفسه بالاستياء منهن والغضب. إنهم أطفال حذرون حين يقابلون أشخاصاً راشدين جدد لا يعرفونهم.
في نمط الارتباط العاطفي المتجنب، لا يتفاعل الطفل بشكل قوي مع مغادرة وعودة أمه – بمعنى آخر، حين ترحل أمه لا يبحث عنها، وحين تعود يتجاهلها.
حب الأم : كيف يجعل الولد عظيماً أو فاشلاً
إن التجارب المبكرة للطفل مع أمه وتكوين الارتباط العاطفي أمران مهمان جداً لنمو الطفل بشكل عام.
يبني الطفل نماذج تواصل داخلية وفقاً للتجارب التي يكتسبها في التفاعل مع أمه. تتضمن هذه التجارب معتقدات وتوقعات ومواقف وسلوكيات ومشاعر شخصية اتجاه نفسه واتجاه الآخرين. مما يعني أن الأطفال الذين يبنون نموذج ارتباط عاطفي آمن يكوّنون صورة عن أنفسهم كأشخاص يستحقون الحب والإهتمام وصورة عن الآخرين كأشخاص يمكنهم الوثوق بهم.
بينما الأطفال الذين تبنوا نموذج ارتباط عاطفي متناقض يكونون صورة سلبية سيئة عن أنفسهم وصورة إيجابية عن الآخرين. والأطفال الذين تبنوا نموذج ارتباط عاطفي متجنب يضعون دروعاً بينهم وبين الآخرين لتجنب الإصابة بالإحباط وخيبة الأمل، مما يخلق صورة دفاعية-إيجابية عن أنفسهم وصورة سلبية عن الآخرين.
ما أريد التركيز عليه، هو مراقبة الارتباط العاطفي عبر لعب الأطفال ولعب الأم أو الأب أو الشخص الوصي معهم.
منذ فترة طويلة، اكتشف الباحثون في هذا المجال أن الأطفال الآمنين يميلون أكثر إلى التصرف بطريقة مستقلة في تنظيم ألعابهم الخاصة، كما أنهم قادرون على استخدام الأشياء بمرونة ويمتلكون قدرة أكبر على التخيل.
ينعكس الاختلاف بين الأطفال الآمنين وغير الآمنين عبر نوعية طريقة اللعب. وبالتالي يبدو الأطفال الآمنون أكثر إصراراً وأكثر ميلاً للانخراط في لعبة منظمة حول هدف محدد.
ومن الأمور المهمة التي تم اكتشافها، أن اللعب عن طريق التمثيل لدى الأطفال الآمنين يصل إلى مراحل أطول وأكثر تعقيداً عندما تشارك الأم في اللعب، بينما لدى الأطفال غير الآمنين لا يكون للتفاعل مع الأم دور تحفيزي مماثل.
عام 1978، بدأت ماري آينسورث عملية تسمى “التواجد مع شخص غريب”. وهي تتم على النحو التالي:
- 1- يدخل الطفل مع أمه إلى الغرفة؛
- 2- يكتشف الطفل المكان وتتدخل الأم إذا لزم الأمر؛
- 3- يدخل شخص غريب إلى الغرفة؛
- 4- تترك الأم الطفل مع الشخص الغريب الذي لا يعرفه؛
- 5- تعود الأم ويغادر الشخص الغريب بهدوء؛
- 6- يبقى الطفل وحده في الغرفة، لأن الأم ترحل أيضاً؛
- 7- يدخل شخص غريب إلى الغرفة ويبدأ بالتواصل مع الطفل؛
- 8- تعود الأم، ويرحل الشخص الغريب بهدوء.
الأمر المهم في هذه العملية، هو سلوك الطفل اتجاه أمه خلال فترات عودتها، وفي المراحل التي سبقت والتي تلت عودتها.
تمكنت ماري آينسوورث عبر هذه التجربة عام 1978 من استنتاج 3 أشكال من التعلق العاطفي، وقد تمت إضافة نمط رابع لاحقاً.
الأطفال الذين تم تصنيفهم بالآمنين يعتبرون أمهاتهم كمصدر أمان أثناء الاستكشاف. ويسعون إلى التواصل معهن حين يشعرون بالاستياء. ومن ثم يعودون إلى الاستكشاف بعد حصولهم على الطمأنينة التي يحتاجون إليها.
في مراحل الابتعاد عن الأم، يصدر الأطفال المتعلقون بأمهاتهم بشكل قوي إشارات إلى أنهم يفتقدونهن. ويستعيدون الابتسامة عند عودة أمهاتهم ويكلمونهن ويلقون التحية عليهن.
بينما يبدأ الأطفال الذين تم تصنيفهم بالمتجنبين بالاستكشاف فوراً. يعبرون عن مشاعرهم بطريقة سيئة ولا يحاولون التواصل مع أمهاتهم للشعور بالأمان. وحين يصبح الطفل وحيداً لا تظهر عليه أي علامات قلق. ويتقبل الشخص الغريب بسهولة كشريك في اللعب. وعند عودة أمه، يتجنبها عبر الانشغال باللعب، ولا ينظر إليها ويركز غالباً على الألعاب.
وإذا حاولت الأم الإمساك به لجعله ينهض، فقد يتصلب أو ينحني على نفسه لتجنب التواصل معها.
بينما يظهر الأطفال الذين تم تصنيفهم ضمن المجموعة المتناقضة قلقاً واضحاً أثناء الدخول إلى الغرفة ولا يبدأون بالاستكشاف. وحين تغادر الأم، يحتجون بشدة. وعند عودة الأم قد تتناوب ردود الفعل في أغلب الأحيان بين محاولات تواصل ورفض. هؤلاء الأطفال لا يتمكنون من الحصول على الطمأنينة والأمان عند التواصل مع أمهاتهم.
يتم تصنيف الأطفال على أنهم غير منظمين إذا أظهروا سلسلة من أنماط السلوك المتعارضة مع بعضها. على سبيل المثال سلوك يعبر عن تعلق شديد يليه محاولة تجنب.
أو في حال ظهور سلوكيات متناقضة بشكل متتالٍ وحركات وتعابير غير موجهة، غير مكتملة ومقطوعة، وسلوك نمطي ووضعيات جسدية غير طبيعية، وتصلب وتأخر عن اللحاق بتحركات الأهل المباشرة، إضافةً إلى السلوك المشوش، والتقلبات العاطفية السريعة جداً… إلى آخره.