كنتُ أعرف أنها متوترة بسب توتري. وأعرف تماماً أنها تقرأ مشاعري وملامح وجهي. ربما هي أكثر شخصٍ يفهمني في الوجود. إنها جزءٌ من روحي، جزءٌ يبكي حين أبكي ويفرح حين أفرح، لكن الفرق فقط هو أنها تعبر بطريقة أكثر شفافية ووضوحاً.
هي نسختي المصغرة، نسختين التي تعبّر عما أكبته داخلي، ترى الألم يحاصرني فتشعر بأنها تتخبط في قفصٍ صغير عاجزة عن الخروج منه فتغضب، هي نسختي المصابة باضطراب طيف التوحد. ترى الخوف داخلي فتشعر بعدم الأمان وتنفعل. ترى الحزن في عينَيّ فتغيب عنها الابتسامة.
ما أكدّ أفكاري هذه هي أخصائية العلاج اللغوي، التي أخبرتني أنها كانت تساعد ابنتي على تمثيل مشهد يتعلق باختيار ملابسها، وقالت “وقعت الملابس، فغضبت ماما”.. وحينها أغلقت ابنتي قبضة يدها وبدأت بالصراخ.
عدنا إلى المنزل.. نظرتُ إليها وهي تصرخ وترمي الأغراض أرضاً، وأدركتُ كم أن هذا ما أرغب القيام به في هذه اللحظة، إطلاق صرخة عالية تسكت كل الأصوات التي تسيطر على تفكيري وكل الهواجس والمخاوف التي تشتتني. صرخة تعبر عن كم التوتر الذي أعاني منه، تعلو فوق صوت الكون، علّ صوت الكون يخفت قليلاً.
لكنني لا أستطيع أن أعبّر بالطريقة التي أريد، أو بمعنى أوضح بالطريقة التي تعبر بها ابنتي. أنا أم، أنا شخصٌ مسؤول، أنا امرأة ناضجة واعية متزنة، لا يحق لها أن تسمح لنفسها بالانهيار والاستسلام لليأس ولو للحظة. أنا امرأة تحترف الصمت، أنجبت طفلة تحترف التعبير عن صمت أمها!
أمسكتُ بيديها، نظرتُ إلى عينيها، وقلتُ لها بجدية وبوضوح “لا تخافي، أمكِ ليست حزينة، أمكِ ليست غاضبة، أمكِ سعيدة لأنكِ بالقرب منها. أمكِ سعيدة جداً صدقيني”. فما كان منها إلا أن غمرتني بشدة بعد أن كانت ترفضني لفترة طويلة.
تفاجأتُ، كأن هذا ما تريد أن تسمعه بالتحديد. كأنها طيلة هذه الفترة كانت تطلب مني أن أهدأ.
إنها مرآتي.. كأنني أنظر إلى نفسي من خلالها وأرى انعكاس ذاتي الحقيقية. تذكرتُ نظرتها حين كانت تدفعني وتصرخ كأنها تود أن تقول “أتركيني، مَن أنتِ، أريد أمي!”. كأنها لا تستطيع التعرف عليّ، كأنها ترى شخصاً مختلفاً تماماً.. ذاك اليأس الذي كان يسيطر عليّ كان يحجبني عن ذاتي، وبما أنها جزءٌ من ذاتي، كان يحجبها عني أيضاً.
حين أمسكتُ يديها ونظرتُ إلى عينيها وقلتُ “أنا سعيدة..” كنتُ فعلياً أحاول إيقاظ نفسي من غيبوبتها القاتمة. ونجحت! استيقظتُ، واحتضانها لي كان أكبر دليل.
كم أعشق هذه الطفلة! إنها مصدر قوتي السري، إنها حقيقتي التي أحاول أن أخفيها عن ذاتي وعن الجميع. هي تعريني من النفاق الاجتماعي الذي يُفرض عليّ، وتجعلني أرى ذاتي على حقيقتها. تحاول انتشالي من بئر أوهامي العميق، وتنجح دائماً في إنقاذي.. كم هي بارعة، هذه الطفلة الشفافة النقية، تحمل في عقلها المختلف دهاءً لا يدرك حقيقته سواي، تماماً كما أنها الوحيدة التي تدرك حقيقتي.
سماح خليفة