الشرط الأول كي تساعدي طفلكِ هو أن تتقبليه
“كلا ابني بخير، هذا الطبيب غبي.. كل ما في الأمر أن صغيري المدلل مزاجي بعض الشيء”. قالت هذه الكلمات ثم أدارت وجهها عني مدعية أنها منشغلة بالهاتف. التفتُ إلى ذاك الطفل اللطيف الملائكي الذي يبلغ من العمر سنتين ونصف، الجالس في زاوية الغرفة بمفرده وهو يدير إطار سيارته الصغيرة، وتذكرت. تذكرتُ حالة الإنكار التي عشتُها حين صُدمت بتشخيص الطبيب لابنتي. تذكرتُ كيف كنت أرفض الحقيقة وكيف كنتُ في أعماقي أدرك أن هناك خطبٌ ما. لكنني كنتُ خائفة، خائفة جداً ووحيدة، أتخبط بأفكاري وأشعر أن الكون كله انهار فوق رأسي في لحظة واحدة، لحظة أخبرتي الطبيب أن ابنتي مصابة ب…. اضطراب طيف التوحد.
أول ما نحتاجه حينها أن نجد مَن يفهمنا حقاً
سحبتُ منها الهاتف بهدوء وأمسكتُ بيدها ونظرتُ إلى عينيها مباشرةً وقلت “أنا أعرف أن الأمر صعب، أنا أشعر بحرنكِ وخوفكِ، أنا أتفهم مشاعركِ جيداً. لكن من واجبي أن أوضح لكِ ما تمنيتُ لو عرفته مبكراً. اضطراب طيف التوحد منقسم إلى عدة درجات. وكلما تمكنا من تقبل الواقع بشكل أسرع كلما تمكنا من استدراك الأمر. يؤسفني أن أخبركِ أن هذا الطبيب ليس غبياً. مجد يحمل العديد من سمات طيف التوحد، هو لا يلتفت إلينا حين نناديه، يستخدم الألعاب بطرق مختلفة، لا يفهم الأوامر البسيطة حين نطلب منه أن يأخذ الطابة مثلاً أو أن يأتي، يتجنب التواصل البصري واللمس، لا بحاول التواصل لفظياً… الخبر السار هنا هو أنكِ اكتشفتِ المشكلة مبكراً، وأن هذا الأمر سيفيده بشكل كبير”.
دمعت عيناها وارتبكت وسحبت يدها وقالت بصوتٍ مرتجف “لكن أنظري هو يلعب معي، ويرد حين أناديه أحياناً”. ونادت بصوتٍ منفعل “مجد”. لكن مجد لم يلتفت، وهذا ما كنتُ أتوقعه. ثم نادت عليه بصوتٍ أعلى، لكنه أيضاً لم يلتفت. فبدأت تصرخ “مجد أنا أناديك، لم لا ترد؟” وانهارت باكيةً.
غمرتُها وبكيت. كأنني أغمر ذاتي في الماضي. لكن الفرق هو أنني لم أجد حينها مَن يواسيني. كنتُ أواسيها وفي أعماق نفسي أواسي ذاتي. بدأتُ أطمئنها وأخبرها أنها يجب أن تتقبل الواقع كي تتمكن من مساعدة طفلها. وأخبرتها عن الطريقة التي تقربتُ عبرها من ابنتي وكيف تمكنتُ من الوصول معها إلى مرحلة متقدمة برفقة فريق من الأخصائيين والمعالجين.
الشرط الأول كي تساعدي طفلك هو أن تقبليه
ثم قلت “الشرط الأول كي تتمكني من الإمساك بيد طفلكِ لاصطحابه إلى بر الأمان، هو أن تتقبليه وتحبيه كما هو. بهذه الطريقة فقط ستتمكنين من العثور على طريقة تواصل معه ومن بناء جسر من الحب والثقة والأمان للعبور إلى عالمه. تذكري جيداً، طفلكِ لن يسمح لكِ بدخول عالمه ما لم يكن واثقاً من أنكِ مستعدة لتقبله دون قيدٍ أو شرط. أما الشرط الثاني، فهو أن تعثري على طريقة كي تخلعي عنكِ رداء الخوف والتوتر أولاً، لأنهما كالمغناطيس المعاكس. كلما شعر بهما الطفل المصاب باضطراب طيف التوحد كلما ازداد نفوراً وانعزالاً. فأطفالنا يلتقطون الطاقة السلبية والإيجابية بسرعة ويتفاعلون مع محيطهم بأسلوبهم الخاص”.
ثم أكملت “قبل أن تسألي نفسكِ إن كان يحبك. هو حتماً يحبك. لكنه يعاني من قصورٍ في التواصل والتعبير عن مشاعره. هو لا يقصد أن يكون بعيداً عنكِ، بل يعاني من مشاكل حسية ومشاكل في التواصل تصعب الأمور عليه. أنا أثق أن حجم الحب في قلبكِ سيساعدكِ على الصمود ومساندة مجد. فالله لا يسلم أصعب المعارك سوى لأقوى جنوده”.
سماح خليفة