الدرس القاسي الذي علّمتني إياه ابنتي
هل لاحظتم يوماً أن التربية عملية متبادلة؟ وأن أطفالكم يكسبونكم قيماً جديدة ويعلّمونكم مبادئ جديدة كل يوم. كيف ذلك؟ سأخبركم عن تفاصيل تجربتي مع ابنتي التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات، وعن الدرس القاسي الذي علّمتني ابنتي أن أتبعه دون أن تقصد.
الدرس القاسي الذي علّمتني إياه ابنتيً
علّمتني ابنتي أن أكون القدوة..
طفلتي نسخة مصغرة عني، تستنسخ انفعالاتي، طريقة تصرفي حين أغضب، طريقة كلامي..
إنها الحقيقة! ذات يوم قامت بسكب الحليب على الأرض، بعد أن أنهيتُ تنظيف الأرض للتو. لم أتمكّن من تمالك نفسي فبدأتُ بالصراخ تلقائياً دون أن أفكر. ما الذي فعلته؟ هذا تصرف خاطئَ أنتِ فتاة مشاغبة! لن ألعب معكِ اليوم. شعرتُ بالذنب بعد بضع دقائق، لكنني واسيتُ نفسي بأنها لم تبكِ. ربما لم تتأثر أو لم تهتم. وأكملنا يومنا بشكلْ عادي.
في اليوم نفسه، أوقَعت أختها الصغرى التي تبلغ سنة من العمر اللعبة عن الطاولة. فتوجّهت إليها وبدأت بالصراخ “أنتِ طفلة سيئة! هذا تصرف سيء!”. أصابني الذهول واسترجعتُ الموقف في ذاكرتي.. نفس التصرف، نفس الكلمات ونفس ردة الفعل.
ففكّرتُ للحظات، ما الذي أتمنى ان تقوم به ابنتي مع أختها الصغرى في هذا الموقف؟ أن تحمل اللعبة وتعطيها لأختها، وتقول لها لا بأس ثم تغمرها وتقبلها. هذا ما كانت تتمنى أن أقوم به ابنتي. هذا ما كان يجب أن يحصل.
الدرس القاسي الذي علّمتني إياه ابنتي من خلال هذا الموقف: أن سلوك الأم ينتقل تلقائياً إلى الطفل. وأنني يجب أن أقوم بما أريد من طفلتي أن تقوم به. وكيف أعد إلى عشرة لا بل إلى مئة قبل أن أنفعل بسبب أمور تافهة.
علّمتني ابنتي أن هناك ما هو أهم من المال بكثير
ذهبنا إلى منزل والدتي ككل صباح. وقمتُ بتقبيل ابنتي وتوديعها ككل يوم. لكنها تمسّكت بملابسي وبدأت بالصراخ “أمي لا تذهبي”. أخبرتُها عن الألعاب التي سأشتريها لها حين أعود والحلوى المفضلة لديها. فصرخت باكيةً “لا أريد حلوى، لا أريد ألعاب.. أريد أمي”.
فكّرتُ ملياً حينها بهذه العبارة. فقد كانت كالصفعة التي يحتاجها المرء كي يستيقظ. لقد غيّرت فعلاُ مسار حياتي. فأنا أعمل للحصول على المال ولتأمين الرفاهية لأولادي. وقد نسيتُ أمراً مهماً جداً. نسيتُ أنها تحتاج إلى غمراتي وقبلاتي واهتمامي وكل هذه التفاصيل البسيطة أكثر من المال. فالحياة تحوّلنا إلى روبوتات آلية دون أن نشعر، فنقوم بوضع مشاعرنا جانباً ونكافح كي نستمر. إلا أن الأمر اختلف. بعد أن كنتُ أعمل لساعات إضافية، قررتُ الإلتزام بدوام عمل محدد والبحث عن عمل آخر أستطيع عبره قضاء وقت أكثر مع أطفالي حتى لو كان المردود المادي أقل. فما نفع المال إن كانت قلوب أطفالنا حزينة وخاوية؟ هناك فعلاً ما هو أهم من المال بكثير.
علّمتني ابنتي أن بعض الحب والإهتمام قد يغيّر كل شيء
إنه عمر ال”لا”، لا أريد أن آكل، لا أريد أن أرتدي ملابسي، لا أريد أن أنام. لكن الأمر زاد عن حده. شعرتُ أن هناك خطبٌ ما. كأنها تحاول أن تعاندني وتتحداني للفت انتباهي. قررتُ تغيير الخطة، لا بل قلبها. وبدلاً من الجدال والصراخ ومحاولة فرض السلطة دون جدوى، أعطيتُها ما كانت تبحث عنه.. القليل من الإهتمام.
خصصتُ لها يوماً، أخذتُ فيه إجازة من العمل. وقمنا بكل ما تحبه، اللعب بالبازل، الطبخ سوياً، الغناء، الرقص، والكثير من الضحك والدغدغة والغمرات والقبلات. وها قد نفعت الوصفة. لقد كانت كالسحر. لقد كان يوماً رائعاً خالياً من ال”لا”. ارتدت ملابسها دون عناد، تناولت الطعام الذي أعددناه سوياً كله دون جدال، ونامت بعد أن رويتُ لها قصتها المفضلة دون أن تهرب من السرير عشرات المرات. كل ما كانت تحتاج إليه وتعبّر عنه بسلوكٍ غير مقبول كان فقط بعض الحب والإهتمام.
علّمتني ابنتي ألا بأس ببعض الفوضى، ليس بإمكاننا السيطرة على كل شيء
كان مزاجي سيئاً جداً، مشاكل في العمل، والمنزل شبه مدمّر، الألعاب في كل مكان، والغسيل متراكم. جلستُ مستسلمةً ووضعتُ رأسي بين يدي لمحاولة استجماع قواي والسيطرة على غضبي. كنتُ على وشك البكاء، فهذه اللحظة التي نفقد فيها السيطرة على كل شيء تكاد تفقدنا جنوننا. إلى أن ركضت تلك الأعجوبة الصغيرة نحوي وغمرتني قائلةً “أنا أحبكِ ماما، أنتِ أروع أم، لا تحزني، أنا هنا بالقرب منكِ”. هي عبارة غالباً ما أقولها لها حين تشعر بالحزن. فوجدتُ نفسي أبتسم دون وعي، وبكيتُ لكن من السعادة. أعجوبتي الصغيرة تواسيني. مَن قال أنني أمٌ فاشلة؟ لقد نجحتُ في تربية طفلةٍ محبة رائعة، وشهادتها لي بأنني أم رائعة تكفيني.
علّمتني ابنتي أن كل فعل يؤدي إلى رد فعل
كنتُ أروي لها قصة قبل النوم. وعادةً ما أحاول حثها على إكمال القصة بطريقتها لتنمية خيالها والتعرف على ما يختلجها من مشاعر. كانت القصة عن فتاة صغيرة تحب أختها كثيراً، لكنها تضربها أحياناً (تماماً كما تفعل ابنتي). فسألتها “برأيكِ لم تضرب نورا أختها الصغيرة مع أنها تحبها؟” فأجابت فوراً “لأنها تلعب مع ماما وبابا”.
بهذه البساطة، بهذه البراءة، فهذه العبارة الصغيرة اختصرت كل شيء. إنه فعلٌ يؤدي إلى رد فعل. إهتمامنا الزائد بأختها وتجاهلها دون قصد، ودون أن نراعي مشاعرها ونفكر بعواقب الأمور، جعلها تعبر عن غيرتها دون قصد، ودون أن تراعي مشاعر أختها الصغرى وتفكر بعواقب الأمور.
علّمتني ابنتني ألا أحكم قبل أن أجرب
لدي إبنة ثالثة مصابة باضطراب طيف التوحد. كنتُ أعزلها عنها حين نقوم بالنشاطات الإنشغالية، كي لا تفقد تركيزها ويتشتت انتباهها. وكانت أعجوبتي الصغيرة تقف أمام الباب باكيةً وتقول “أريد أن أدرس أيضاً”. كنتُ دائماً أشعر بالذنب، لكنني لطالما ظننتُ أنني أقوم بالصواب. إلى أن قررتُ أن أجعلهما يقومان بنشاطْ معاً. حضّرتُ طاولتين وكرسيين، ونفس الأغراض. وكانت النتيجة رائعة، تفاعلت إبنتي الكبرى بشكلٍ إيجابي جداً، وبدأت تقلّد أختها وتنفذ النشاط بسعادة، بعد أن كانت تهرب مراراً وتكراراً أثناء تنفيذه. وها هي أعجوبتي الصغيرة جزءٌ من رحلة علاج أختها الكبرى وسندها الأول والداعم الأكبر لها في كل شيء.
علّمتني ابنتي أن الحزن معدٍ وسريع الإنتقال كالوباء
طفلتي لا تحتاج إلى أمٍ مثالية، طفلتي تحتاج فقط إلى أم سعيدة
كان يوماً سيئاً جداً. وقد استخدمتُ الكرسي الميت لمعاقبة ابنتي بعد أن نشرت الطحين في جميع الأرجاء. وكنتُ قاسيةً معها بعض الشيء. فالجميع يلومني لأنني أتساهل في تربيتها، وأنا الشخص الوحيد الذي يتحمل النتائج. شعرتُ بالذنب كالعادة، ذهبتُ إلى غرفتها قبل أن تغفو، لأواسيها وأسألها إن كانت ما زالت حزينة. أجابتني “أنا لستُ حزينة لأنني جلستُ على الكرسي، أنا حزينة لأن ماما دائماً حزينة”.
لم تعد المشكلة في أنني عاقبتها. المشكلة أنني أنقل إليها مشاعري السلبية، حين أكون متعبة، حين أكون حزينة، حين أكون غاضبة. واكتشفتُ أن طفلتي لا تحتاج إلى أمٍ مثالية، طفلتي تحتاج فقط إلى أم سعيدة.
سماح خليفة