لماذا لا تدركين سوء المعاملة التي تعرضت لها في طفولتك إلا في سن متأخرة ؟ رحلة التعافي البطيئة
رحلة التعافي:
نسمع مراراً وتكراراً فتيات يطرحن السؤال التالي بهذه الطريقة أو بأخرى: “لماذا استغرقت وقتاً طويلاً لأكتشف أنني وُلدت في عائلة تطغى عليها العلاقات السامة والمؤذية؟ لماذا سمحت لوالديّ بأن يعاملاني بأسوأ الطرق لعقود طويلة؟”
بالرغم من أن العديد من الفتيات غير المحبوبات يكتشفن سوء المعاملة التي يتعرضن لها من قبل أمهاتهن، فالكثير منهن لا يستطعن تحريك ساكن قبل مرحلة البلوغ. أظهرت لي أبحاثي أن معظم النساء يتوقفن عن الشك بالمعاملة السيئة التي تلقينها ويبدأن باتخاذ إجراءات فعلية عندما يبلغن سن الـ40 أو الـ50 أو حتى أكثر من ذلك.
لماذا لا تدركين سوء المعاملة التي تعرضت لها إلا بعد وقت طويل؟
من ناحية، تتمسك معظم الفتيات بذرة الأمل- بالرغم من أنهن على يقين مما يحدث- التي تجعلهن يطمحن لتغيير الأمور بطريقة أو بأخرى. يتغذى هذا الأمل من كل مرة تعاملك أمك بها بطريقة لائقة تجعلك تعتقدين أنك قد تجاوزت مرحلة ما.
في أوقات أخرى، يتغذى هذا الأمل من العطش الذي تشعرين به للحصول على دعم وحب واهتمام أمك ويُولد نتيجة التفاؤل الذي تشعرين به وحالة النكران التي تعيشينها. يصبح من الصعب جداً التعرف إلى العلاقة السامة التي تربطك بعائلتك عندما تكونين في قوقعة من النكران التام قمت ببنائها لتحمي نفسك من الألم والاضطراب الذي يصحب الاعتراف بأنك غير محبوبة من قبل أهلك ولكي تختبئي من الحقيقة لأنه من الأسهل أن تراوغي وتتظاهري بالجهل بدلاً من أن تواجهي الواقع الأليم.
بالرغم من أن رحلة التعافي مخيفة ومحبطة ومن أن العثور على ذاتك ليست بالمهمة السهلة أبداً، ليس من المستحيل تحقيق كلاهما. نحن لسنا بحاجة لأن نعيش حياتنا كبالغات الآن كما كنا نعيشها ونحن صغار- خائفات، متعطّشات للحب والاهتمام، وغير قادرات على مواجهة المواقف وتخطيها بطريقة فعالة. من أجل أن نتّخذ خطوتنا الأولى في درب التعافي الطويل، علينا أن نتقبل أكبر مخاوفنا لأننا لن نستطيع أن نكتشف مسار تطورنا المناسب دون أن نتعرف إلى ما نحن بحاجة إليه أولاً. تشكل هذه العملية الخطوة الأولى في رحلتنا نحو التعافي لأنه لا يمكن لجروحنا أن تلتئم إذا لم نكن على دراية بها من الأساس.
أسئلة يجب عليك طرحها على نفسك لتصبحي قادرة على إدراك جذور المشكلة
اختاري وقتاً مناسباً لممارسة هذا التمرين عندما تشعرين بالهدوء وبالقدرة على السيطرة على مشاعرك وعلى حياتك بشكل عام.
مارسيه بعد أن تأخذي أنفاساً عميقة وتقرري أنك في وضع نفسي مناسب يسمح لك بالتفكير في أمور مهمة وبالشعور بالراحة التامة. فكري إذاً بالأسئلة التالية وأجيبي عنها على مفكرة أو دفتر ما:
- • ما أكثر ما يقلقني في هذه الرحلة؟ هل هو خوفي من الفشل أم أمر آخر؟
- • ما مدى الإحراج الذي أشعر به؟ هل أنا خائفة من كوني غير محبوبة؟
- • هل يمكنني تسمية مخاوفي التي تخنقني بصمت؟
- • ما مدى خوفي من التعرض للانتقاد من قبل الآخرين إذا حركت ساكناً؟ أو إذا كسرت صمتي؟
- • هل أعرف ما هو أكثر ما يؤلمني؟
- • إلى أي حد أشعر بالندم على الوقت الذي قد أضعته وأنا أحاول إصلاح الأمور؟
- • ما الذي لا يزال يعيق تقدمي؟
- • هل ما زلت عالقة في دوامة أساليب تأقلمي مع الوضع من خلال اللجوء إلى الطعام والكحول والإفراط في الإنفاق…؟
- • هل يمكنني أن أصف ما أرغب به حقاً بكلمات محددة؟
اكتبي مسودة بإجاباتك وقد يكون من المفيد جداً تحديد تاريخها لكي تتمكني من العودة إليها لاحقاً. تعتبر هذه العملية طريقة أخرى تساعدك على قياس مدى تقدمك.
لا تنسي أن استعادة حياتك وتحسينها يتطلب وقتاً. لقد أمضيت سنوات طويلة عالقة في عائلة تعاملك بطريقة سيئة ولن تستطيعي التخلص من هذا الماضي إلا من خلال القيام بخطوات صغيرة شيئاً فشيئاً، تماماً مثل عملية تعلم سلوكيات جديدة. عليك أن تتعلمي كيفية التصرف بلطف مع ذاتك والتفريق بين عادتك القديمة التي تحثك على انتقاد ذاتك دائماً وبين تحمل المسؤولية لأنهما أمران مختلفان كلياً عن بعضهما.
ركزي على تعريفك لمفهوم كلمة “التعافي” لأنه مهم جداً
غالباً ما تكون توقعاتنا بشأن عملية التعافي غير واقعية أبداً. تحدد هذه التوقعات مدى سعادتنا أو استيائنا من رحلة التعافي التي نخوضها مع مرور الوقت. يعتبر هذا الموضوع حساساً جداً على المستوى العاطفي لذا دعونا ندخل في تفاصيله ونناقش ما يمكننا تحقيقه بالفعل خلال هذه الرحلة.
التعافي يعني “التخلص من”، وللأسف نحن نعرّفه بشكل غير صحيح إذ نظن أن التعافي هو عبارة عن عصا سحرية تجعلنا “كاملات” وتجعلنا نشعر بأننا نساء محبوبات ومدعومات منذ البداية. يبتعد هذا التعريف كل البعد عن الحقيقة لذا يجب أن نلقيه جانباً. مع ذلك، يجب أن نتذكر دائماً أن هذا لا يعني أننا غير قادرات على التعافي.
يعتبر مجتمعنا أنه يجب على المرء أن يخفي جروحه وآلامه. نحن نقوم بإصلاح شيء ثمين تم كسره أو إتلافه ليعود أفضل مما كان وليصبح “مثالياً”. لا يهم إذا كان هذا الشيء عبارة عن لوحة فنية تم تقطيعها أو إرث ثمين أو حتى شخص تعرض للأذى الجسدي أو النفسي بطريقة ما. أعتقد أن تعريفنا للتعافي على أنه عملية تتطلب التخلص من شيء ما لا يساعدنا قط، بل هو يعيق تقدمنا. يجعلنا ذلك نشعر بعدم الرضا والتسامح عندما تظهر سلوكياتنا القديمة أو عندما تغمرنا مشاعر لا نستطيع التعامل معها.
أعتقد أن وجهة النظر اليابانية التي يعبر عنها الفن الكينتسوجي القديم، ليست أكثر واقعية وحسب بل هي أكثر صحة من الناحية النفسية. يُستخدم فن الكينتسوجي لإصلاح القطع الثمينة المصنوعة من السيراميك (الخزف). يتم إصلاح الكسور من خلال إعادة تجميع القطع بواسطة الطلاء الممزوج بالقطع المعدنية الثمينة كالذهب مثلاً أو الفضة أو النحاس. بهذه الطريقة، يتم تخليد التشققات والجروح وتصبح القطعة “كاملة” ويمكن رؤية تاريخها بالعين المجردة مما يخلق نوعاً آخر من الجمال.
أعتقد أن هذه الطريقة لا تقتصر على عملية التعافي وحسب بل يمكن استخدامها للنظر إلى عيوبنا وجروحنا وتجاربنا السابقة التي مرت بها أنفسنا الحالية والمعافاة. يسلط فهم رحلة التعافي من منظور الكينتسوجي الضوء على صمودنا وانتصاراتنا ولا يقلل من قيمة جروحنا السابقة، هو يسمح لنا برؤية أنفسنا ككل دون أن نغض النظر عن جروحنا وانكساراتنا. يساعدنا ذلك على اكتشاف الجمال الذي نتمتع به الذي لا يقتصر على الكمال بل يشمل القوة والصرامة والإيمان بأنفسنا.
حان الوقت لتعرّفي التعافي بهذه الطريقة وتتخلي عن المعتقدات القديمة البالية التي تحثّك كي “تعودي بحلة أفضل”- مهما كان ذلك يعني- لأن هذا سيساعدك ويشجعك على التعافي كلياً