المغتربون يدفعون ثمن الحياة “السعيدة” من عمرهم وراحتهم و”سعادتهم”

0

المغتربون يدفعون الثمن

وقف هادي وهو طفل يبلغ من العمر 4 سنوات على باب منزل جدته، وبدأت الدموع تتساقط من عينيه. كان جميع الأقارب مجتمعين. إنها لحظة الوداع. أسوأ اللحظات التي تمر على المغتربين. نظر إلى والدته وهو يترجاها بلهفة “أمي، أريد أن أبقى هنا. ألا يمكنني أن أبقى معهم؟”. أجابت الأم بحزن شديد وقد بدأت الدموع تقف عند حافة عينيها معلنةً لحظة السقوط دون رغبة صاحبتها “عزيزي، مع الأسف علينا الرحيل”. ثم أكمل الطفل قائلاً “ألا يمكنني أن أصطحب جدتي وجدي وخالتي وعمي وأولادهم معنا؟”. احتارت الأم أتبكي أم تضحك من مدى براءة أفكار طفلها المسكين وأجابت “مع الأسف لا يمكننا ذلك أيضاً، لكنني أعدكَ أننا سنعود في الصيف المقبل”.

وقفت الجدة تودع أحفادها على الباب متسائلةً إن كانت ستتمكن من رؤيتهم مجدداً وقد غلبها المرض، مودعةً ابنتها الوحيدة التي تركتها برفقة العاملة المنزلية التي لا تعطف عليها ولا يمكن أن تشكل بديلاً عن ابنتها. كانت سعيدةً لان ابنتها تحظى وأطفالها بحياة أفضل بكثير من المعاناة التي يعيشها أبناء وطنها. لكنها كانت تفتقدها بشدة، وتحتاج إلى وجودها كلما مر يوم وشعرت أنها تكبر من دون ابنتها سنة.

حبست دموعها بابتسامة حزينة، تماماً كما كانت تفعل بعد كل اتصال فيديو هاتفي تطمئن عبره ابنتها أنها بخير وأن كل شيء على ما يُرام.

كانت دائماً تحاول ألا تخبرها أموراً تقلقها، لأن المرء في الغربة يعاني أضعاف ألم أقاربه، كونه لا يراهم ويتخيل السيء أسوأ، فتشده أفكاره إلى صور سوداوية كئيبة بسرعة وسهولة. الأمر نفسه كانت تفعله سهام، سهام أيضاً كانت تكذب.. لم تكن تخبر أمها عن مشاكلها ومشاكل أطفالها، لن يفيد ذلك سوى بزرع القلق في فؤاد أمها. ما الفائدة من الكلام؟ فالمسافة تمنعها حتى من الإرتماء في حضن أمها باكيةً أو باحثة عن بعض الأمان في هذا الكون المخيف.

premium freepik license

إنهم المغتربون الذين تحسدونهم على عيشتهم السعيدة المليئة بالرفاهية. إنها حياتهم التي لا ترون منها سوى القشور. لطالما بكى ابن سهام ليلاً لأنه يشتاق إلى الجو العائلي الذي رآه في موطنه ويشتاق إلى خالته وأولاد الجيران. لطالما أخبر والدته أنه يشعر بالوحدة ويشتاق إلى حكايات جده وطعام جدته اللذيذ.

ماذا على سهام أن تخبره؟ أن الوطن الذي يريد العودة إليه خالٍ من الأمان ومن أقل مقومات الحياة الكريمة؟ أن الماديات أهم من الصور المثالية التي يراها في خياله.. وأن الفقر يقتل حتى لحظات الوئام والحب؟

أذكر أخي الذي سافر كي يؤمن حياة كريمة لطفله، كيف يتحدث معه بشكل يومي. أذكر أنه كان يخبرنا أن الحياة في الغربة هادئة ومستقرة وأن البلد الذي يعيش فيه فخم وأنه سعيد جداً وقوي وقادر على العيش باستقلالية. وأعلم جيداً أنه كان يكذب، أخبرني لاحقاً كيف كان يضع الطعام أمامه ويجلس وحيداً منتظراً حلول وقت الإفطار ويبكي وهو يتناول الطعام بمفرده. أخبرني أنه كان يحاول أن يوفر المال ويبخل على نفسه كثيراً كي يدخر لنا المال جميعاً وينقذنا من الضائقة المادية التي نعيشها. أخبرني أنه ليس قوياً كما يدعي أمام طفله وأنه يشتاق كثيراً إلينا وإلى أمه ورائحة طعامها وإلى الشجارات التافهة اليومية التي كنا نشعل فتيلها يومياً ثم ننهي يومنا ضاحكين ونقبل بعضنا كأن شيئاً لم يكن. وأن الوقت يمر بطيئاً وأنه يشعر أنه لن يتمكن من رؤيتنا مجدداً.

المغتربون يدفعون ثمن هذه الحياة “السعيدة” من عمرهم وأيامهم وراحتهم و”سعادتهم”. يكفيهم ذاك الشعور القاتل حين يدركون أن أحد أقاربهم قد مات وهم في مكان بعيد، وأنهم بعد أن حرموا منه لفرة طويلة، قد حُرموا منه مدى الحياة.

سماح خليفة

اترك رد