بين كوكب النظريات والواقع الذي تعيشه الأم فرقٌ كبير
بين كوكب النظريات والواقع الذي تعيشه الأم فرقٌ كبير
“توقفي عن التمييز بين أطفالك”! “لا تهملي ابنتكِ الوسطى هي بحاجة إلى اهتمام عاطفي”! “لا تتركي ابنتكِ الصغرى تبكي كثيراً في السرير، ستعاني من اضطرابات نفسية حين تكبر”! “كيف يعيش أطفالكِ في هذه الفوضى، لا يمكن أن يعيش الأطفال دون نظام”! “أتركي لأطفالكِ بعض المساحة ستدمرين شخصيتهم”! “لا تنفعلي هكذا على أطفالكِ، الصراخ لا ينفع”! “لِمَ لا يصغي إليكِ أطفالكِ، التساهل إلى هذا الحد مضر”!
ماذا بعد؟ بإمكاننا أن نحضّر كتاب إرشادات من آلاف الصفحات بعنوان “نظريات تربوية مهمة ولكن…”.
بين هذه النظريات المتناقضة اللامتناهية والواقع طفلين أو ثلاث أطفال أو ربما أربعة، لديهم الكثير من الطلبات، يتشاجرون يومياً وينثرون الفوضى في كل مكان… ويومٌ يمر على أم لا تدرك متى يبدأ وكيف ينتهي.
أنا لا أنكر أهمية هذه النظريات. لكن دعوني أوضح لكم الأمر بطريقة أبسط، عبر بعض الأمثلة التي توضح الفرق بين ما يُقال نظرياً وما يحدث في الواقع عملياً.
- من واجبي مثلاً أن أرد على ابنتي حين تحدثني وأمنحها كامل اهتمامي وتركيزي (إنها النظرية). لكن الأمر يكون مستحيلاً حين أكون منشغلة بتنظيف أختها التي تبلغ من العمر سنتين في الحمام بعد أن اتسخت كل ملابسها بالرماد أو بالألوان أو بالطعام (إنه الواقع)…
- من واجبي حتماً كأم أن أكون متفهمة وهادئة ولطيفة قدر الإمكان حين يخطئ أحد أطفالي (إنها النظرية)… لكن من الصعب أن أتحدث مع إبنتي بهدوء وهي تمسك بالشريط الكهربائي أو تدفع أختها ويرتطم رأسها بالأرض أو حين تتسلل إلى الشرفة وتحاول الوقوف على الكرسي لتلقي التحية على والدها وهو عائد من شرفة الطابق السابع (إنه الواقع)…
- التساهل الزائد يبني طفلاً اتكالياً (إنها النظرية)… لكن ماذا عن طفلة تغار وتشعر بأن أمها ابتعدت عنها منذ أن أنجبت أختها، واشنغلت عنها بأختها ناهيك عن الوقت الطويل الذي تخصصه للعمل. هذه الطفلة تحتاج إلى المزيد من التعاطف والمراعاة والإهتمام كي تشعر بالإطمئنان لأن مكانها في حياة والديها لم يحتله أحد. والقسوة في هذه الحالة ستزيد المسافة بينها وبين والديها (إنه الواقع).
أنا لا أقصد بمقالي هذا الأفكار والكتب التربوية الإرشادية التي تسهل علينا حياتنا والتي بإمكاننا ان نختار منها ما يناسبنا ونغض النظر عما لا يناسب واقعنا. أنا أتحدث عن أولئك الأشخاص الذين يدخلون إلى حياتنا كي يلقوا بعض النصائح التي لا يمكن تطبيقها ثم يرحلون ويتركوننا نتخبط بين شعورنا بالذنب وبين قلة حيلتنا بسبب الضغوطات المتراكمة على عاتقنا من ناحية.. وبين انفعالنا وخيبتنا وحزننا لأننا ورغم كل الجهود التي نبذلها ما زلنا بنظرهم مجحفين بحق أطفالنا.
قد يكون هذا الشخص جارة أو صديقة أو أم أو أب أو حتى أخت. وكلما كان الشخص أقرب كلما كان حجم الخيبة والحزن أكبر.
ما رأيكم أن تتركونا بسلام؟ إن كان هناك سبيل كي نصل إلى السلام أصلاً وسط زحمة مطبات الحياة ومشاكلها. وإن كنتم مهتمين إلى هذا الحد ما رأيكم أن تترجلوا من كوكب نظرياتكم لبعض الوقت وأن تساعدونا بدلاً من إلقاء الحكم من برجكم العاجي؟ أن تنزلوا إلى واقعنا وتمدوا لنا يد العون حقاً… أراهن على أنكم ستنسحبون من أول المعركة. أتدركون لماذا؟ لان قلب الأم وحده قادر على الصمود ودفعها إلى النهوض رغم انعدام الطاقة والأمل.
سماح خليفة