توقفوا عن جعل طفلكم الأكبر يتولى مسؤولية إخوته!
توقفوا عن جعل طفلكم الأكبر يتولى مسؤولية إخوته!
لطالما اغضبتني طريقة أمي في التنازل عن كل شيء لأجل إخوتها، عن راحتها، عن سعادتها، عن حقوقها وحتى عن التعبير عن مشاعرها. لم أكن أفهم سبب صمتها حين تتعرض للإهانة أو حين يتم الاستخفاف برأيها أو بمجهودها أو بتصرفاتها وطريقة عيشها وطريقة تربيتها لنا. ما الذي يجعلها تصمت هكذا!!! إنها أختهم الكبرى! ما الذي يجعلها تبتسم وتلتزم الصمت حين تتعرض للإهانة رغم أنني أعلم كم أن هذا الأمر يجرحها ويجعلها تشعر في أعماقها بالخيبة والحزن.
إلى أن قررتُ أن أتحدث معها عن طفولتها. وحينها، لم أصدق ما سمعت!
أمي لم تكن أختَ إخوتها، أمي كانت أمهم! كيف؟ هذا ما عرفته عندما قررتُ مواجهتها.
عندما كانت أمي تبلغ من العمر حوالى 13 عاماً كانت فترة حرب. اضطرّت خلالها جدتي عدة مرات إلى ترك أمي في منزل أحد الأقارب بعيداً عن أماكن الخطر مع إخوتها الستة بمفردهم! وكانت جدتي تبقى في منزلهم كي لا يتم احتلاله أو سرقته. أمي ذات الثالثة عشر عاماً كانت تهتم بإخوتها الستة آنذاك، بإطعامهم وإعداد الطعام لهم وتحميمهم وغسل ملابسهم وإلباسهم وتلبية طلباتهم والاعتناء بهم حين يمرضون وبدراستهم. حتى أن السيدة التي كانت تمتلك المنزل كانت تأخذ منها المال الذي ترسله إليها جدتي كي تحضر الطعام لإخوتها، فاضطرت أمي إلى أن تخرج مع إخوتها الستة إلى منزل الجيران في الحي المقابل وتشتري لهم الطعام دون أن تدري صاحبة المنزل الذي كانوا يسكنون فيه مؤقتاً. تخيّلتُ المشهد للحظات! كدتُ أجَن! لدي ثلاث بنات، وحين أخرج مع اثنتين منهما خارج المنزل أشعر بالتوتر والقلق وأجري خلفهما في كل الأنحاء. أمي كانت تخرج مع ستة أطفال!
أكملت قائلةً وهي تضحك “كنا نستخدم طريقة الغسل القديمة بالطشت والعصا. لم يكن لدينا غسالة أوتوماتيكية كالتي تستخدمونها اليوم”. وأخبرتني أنها كانت تتحمل المسؤولية حتى في وجود جدتي، وأن جدتي كانت تجبرها على تنظيف المنزل كل يوم، وكانت تضربها إن وجدتها تلعب مع أولاد الجيران قبل الانتهاء من التنظيف، أو إذا وجدت أن إحدى زوايا الأرض ما زالت متسخة بعد أن قامت أمي يتنظيفها.
كما أخبرتني أنها تخصصت في الجامعة في مجال الأدب رغماً عنها، وأن علاماتها كانت تخوّلها أن تخوض مجال الطب وأنه كان حلمها. لكنها تنازلت عنه لأن جدي كان يفضل أن يدفع المبالغ الكبيرة في الجامعة على الصبيان. وأن مجال الطب مكلف جداً. وفعلاً تخصص خالي في مجال الطب لكنه لم يكمل دراسته، وتخصصت أمي في مجال الأدب والتعليم ونجحت.
إنها تحمل في روحها تجاه إخوتها قلب أمٍ لا قلب أخت
نظرتُ إليها لبرهة وأنا أتأمل وجهها المرهق الذي لم تترك الحياة زاوية فيه إلا ورسمت فيه آثار حزن وتعب. وفكرتُ للحظات، الآن عرفتُ سر هذه المرأة التي أنتقدها واتهمها بالتنازل عن حقوقها وبضعف الشخصية.. إنها تحمل في روحها تجاه إخوتها قلب أمٍ لا قلب أخت. لقد قالت حرفياً “أنا مَن ربيتُ إخوتي!”. هي تفضل أن تبكي بصمت وتتذكر كيف كانت تهتم بهم في صغرهم، وتشعر بخيبة كبيرة حين تراهم يتصرفون معها بوقاحة عندما كبروا دون أن تخبرهم بذلك، على أن تجرحهم بكلمة أو بردة فعلٍ مؤذية.
توقفوا عن جعل طفلكم الأكبر يتولى مسؤولية إخوته!
إنها ضريبة تحمّل الطفل مسؤولية إخوته أكبر من سنه منذ الطفولة. لا يحق لأحد أن يسلب من الطفل طفولته، مهما كانت الأسباب. الطفل لم يُخلق كي يتنازل لأجل راحة والديه، الطفل لم يولد كي يشارك والديه مسؤولياتهم في سن مبكرة. في صغره كل ما عليه أن يقلق بشأنه هو الوقت الذي سينهي به اليوم ويضطر فيه إلى الخلود للنوم والتوقف عن اللعب. بالتأكيد علينا أن نعلم أطفالنا أن يكونوا مستقلين وأن يتحملوا مسؤولية أنفسهم. لكن ليس عليهم إطلاقاً تحمل مسؤولية إخوتهم فيما يتسنى لباقي إخوتهم الأصغر منهم بسنتين أو ثلاث سنوات اللعب والاستمتاع بيومهم بهدوء، لمجرد أنهم الأكبر سناً.
سماح خليفة