قلب الأم وطن سياجه الأب، وأي مكان بعيد عنهما غربة

0

قلب الأم وطن سياجه الأب، وأي مكان بعيد عنهما غربة

منذ صغرنا ونحن نحلم أن نصبح كباراً راشدين. نقلد تصرفات الكبار وسلوكياتهم ونرتدي أحذية والدتنا أو والدنا الكبيرة، ونضع أكسسواراتهم. نتمنى أن نسهر مثلهم وأن نحظى بحرية التصرف واتخاذ القرارات مثلهم. ثم بمجرد أن نكبر قليلاً تصبح الاستقلالية من أعظم أهدافنا. وحين نستقل فعلاً، ونصبح راشدين مسؤولين عن أسر وأطفال، حينها تتبدل الأدوار، حينها فقط.. ندرك قيمة وأهمية العائلة التي كنا نعتقد أنها عبء.
فقط حين نشعر بالعجز والضعف والخوف، نفتقد إلى ذاك الشعور بالأمان بوجود والدينا، ذاك الشعور بأن هناك مَن يحمل العبء عنا ويساندنا ويحمينا.
وفقط حين نضطر إلى السهر لليالٍ متتالية ونشعر بالإرهاق يعترينا، نفتقد إلى النوم حيث نشاء وقت نشاء والاستيقاظ بين يدي أمنا أو أبينا يحملاننا إلى غرفة النوم بمنتهى الحب والعطف وقبلة على جبيننا تزرع كل مشاعر الدفء والطمأنينة في قلوبنا.
فقط حين نركض طيلة النهار لتأمين متطلبات أطفالنا دون نيل أي قسط من الراحة، ونتذكر في نهاية اليوم أننا نسينا أن نتناول الطعام، نفتقد إلى طبق يُحضر بحب واهتمام، يتم وضعه على الطاولة أمامنا دون عناء السعي لتأمين مكوناته أو تحضيره حتى.

وفقط حين نمرض ونضطر إلى النهوض رغم أننا في أسوأ حال، نفتقد إلى مَن يضع لنا الكمادات حين ترتفع حرارتنا مساءً ويذكرنا بميعاد الدواء.
فقط حين يخذلنا شريك حياتنا الذي بذلنا المستحيل كي نكون معه ونستقل عن أهلنا، نتذكر قيمة أهلنا، أولئكَ الذين يحبوننا حباً غير مشروط بمصلحة أو بظروف أو بمقابل. أولئك الذين لا يخذلوننا حتى لو خذلنا الكون بأسره. وأولئك الذين صرخنا بوجههم وتكبرنا عليهم في فترات طيشنا وأنكرنا فضلهم وتضحياتهم اللامتناهية. أولئك الذين خذلناهم وسامحونا دون أن نطلب السماح..
فقط حين نشعر بالوحدة، نشتاق إلى خلافاتنا السخيفة مع إخوتنا، إلى المشاكل التافهة التي كنا نتجادل بشأنها ثم ينتهي بنا اليوم ونحن نتناول البيتزا أو الفوشار ونشاهد فيلماً كوميدياً معاً.

شعرتُ بأن طاقتي نفدت وأنني أحتاج إلى ركن قطار أيامي وأخذ وقت استراحة من كل ما يدور حولي.

ففوجئتُ بوالدتي التي غالباً ما تفضل أن أبقى بعيداً كي لا أرهقها بالفوضى التي يسببها أطفالي حين يحضرون إلى منزلها تتصل بي. وعرضت علي أن أنام في منزلها. لم أفهم ما الذي دهاها، أمي غالباً ما تتصل بي مراراً وتكراراً كي آخذ أطفالي من منزلها حين أكون في العمل، تتصل بي كي نأتي وأطفالي وننام في منزلها!
هل شعرت أنني لستُ بخير؟ هل أحست أنني مرهقة إلى هذا الحد؟ وافقتُ وها أنا أكتب مقالاً من حاسوبي في منزلها الصغير المكتظ بالحب والأمان. وأتساءل باستخفاف: ما الذي كنتُ أكرهه في هذا المنزل؟ ما الذي كان يزعجني؟ كم كنتُ غبية. العائلة هي المكان الوحيد الذي نشعر فيه بالإنتماء، مهما ابتعدنا وادعينا النضج والقدرة على الجفاء. العائلة هي الموطن الذي لا غنى عنه ولا بديل له إطلاقاً. مهما أنكرنا ذلك، سندرك ذات يوم أن قلب الأم وطن سياجه الأب، وأي مكان بعيد عنهما غربة.

سماح خليفة

اترك رد